( IMDbالصورة عن )
يروي فيلم "رجل بدون موبايل" للمخرج سامح زعبي قصة جودت، شاب فلسطيني يعيش في بلدة إكسال، قرية عربية فلسطينية في اسرائيل، يحلم بمغادرة القرية والانتقال إلى المدينة. يحاول جودت قدر الامكان الابتعاد عن السياسة ومشاكلها لكن سرعان ما يصطدم بالواقع، خاصة حين يقود والده، سالم، حملة شعبية ضد إقامة هوائية لتقوية إرسال الهواتف المحمولة، مقتنعًا بأنها تهدد صحة الناس وتمثل اعتداءً على البلدة. تتصاعد الأحداث في محاولة لحل أزمة الهوائية، ولفهم من هو جودت، في عيون نفسه وعيون اهل القرية.
الهوائية في خدمة الاستعمار
يخيل للمشاهد للوهلة الاولى اننا في صدد قصة عن البيئة تروي مشكلة صحية محلية. لكن سرعان ما تتحول الهوائية إلى استعارة عميقة للاحتلال، الاستعمار ونهب الارض: جسم غريب، اخرق، لا يليق بمحيطه، لا يستأذن ويسلبك حقك بالتنقل.
يحاكي الفيلم الواقع الفلسطيني القاسي والمليء بقصص مشابهه وحتى مطابقة، كبناء مستوطنة "ميجرون" بالضفة الغربية المحتلة كما نشر في كتاب "أرض جوفاء"[1] استنادا على معلومات ووثائق رسمية.
سالم.. دون كيشوت أكسال
ينجح زعبي بتجسيد الشخصيات في الفيلم وتسخيرها ببراعة من اجل بناء الرواية وعرض أفكارها. تتطور الشخصيات وتتغير طبقا وفي إطار تطور الاحداث، الا شخصية سالم الذي استبعد ان يكون اختيار اسمه عشوائيا، الأب، العنيد، الرجل الوطني، الحر والمتمسك بأطراف الماضي، لا يخضع لإملاءات المؤسسة ولا يرضى بمراعاة الضغط الاجتماعي عندما يتعارض مع قيمه الواضحة. يرفض سالم استخدام الهاتف النقال "ليسلم" من الانصياع للاحتلال، للعولمة، وللرأسمالية، ومن فقدان الحرية، والجذور.
أتساءل وانا اكتب هذا النص عام ٢٠٢٥، أتوقع سالم المستقبل بهذه الدقة الشديدة؟ افعلا كان بهذا الذكاء أم انه كان نسخةً محليةً لـ "دون كيشوت" في معركته ضد الهوائي: طاحونة اكسال. أكان سالم يقاتل وهمًا في معركة خاسره؟ وان صح ذلك، أيعني انه استسلم تمامًا كما استسلم دون كيشوت عندما أدرك انه يقاتل خيالا؟
في صلب المفارقات
يتميز الفيلم بالعديد من المفارقات والتناقضات التي يوظفها المخرج لوصف الصورة المعقدة والمركبة لحياة الفلسطيني في الداخل.
جودت ومحمد، بخلاف محمد "القنوع" صاحب الثقة بعيشه ببلده الصغير والمتواضع، يعيش جودت حالة مزمنة من التوتر بين طموحه بالتحرر من قيود القرية والتمرد على كل ما يمت بالعالم القديم بصلة وواقعه المليء بالفشل والمغاير لرغباته. يبلغ الأمر ذروته عند استعداده للتخلي عن هويته في مناسبات عده أبرزها كانت عند ذهابه الى حفلة كانت قذ نظمتها حركة "الخُضر" في الكيبوتس المجاور متنكرا بزي نحلة. في هذه المرحلة تبدأ رحلة نضوج جودت وتحوله. كان التلميح لذلك قد بدأ فعلا في مشهد اتكاء جودت بمقعد السيارة بالقرب من كتف محمد عند عودتهم للقرية بعد منعهم من دخول الحفلة بحجة غياب أسمائهم عن لائحة الضيوف. تكتمل هذه المسيرة بعد المواجهة الغامضة مع الشاباك وتهديدها له. يذكرنا هذا التناقض بعض الشيء بشخصيتي "علي" و"أبو صالح" في مسلسل التغريبة الفلسطينية" لوحيد سيف (٢٠٠٤)[2]. اكان هذا التشابه مقصودًا؟ اكان الهامًا لزعبي عند كتابة السيناريو؟ فالأول على غرار جودت متمردٌ، ثائرٌ، لا يرضى بالمسلّمات ولا يكف عن اختبار حدود جغرافيا مجتمعه وتفكيكها. بالمقابل يحرص محمد ورغم صغر سنه على تجسيد فكرة الفلسطيني الكهل، المتواضع والقنوع، ولكن مع ذلك الواثق رغم صمته.
لم تنجح هذه المفارقات والتناقضات في جميع المحاولات ولم يخدم بعضها الفيلم وحبكته. كانت ملابس الشخصيات، خصوصًا الزي الفلسطيني التقليدي عند النساء، تظهر أحيانًا بشكل مبالغ فيه. وكأن الشخصيات أجبرت على عرض هويتها عنوةً لأثبات شيء ما. أهو نقد ذاتي ساخر من زعبي؟ أم أنه انعكاسٌ لحالة اللاوعي الفلسطيني في الداخل بما في ذلك المخرج؟
في أحد أكثر المشاهد في الفيلم غرابةً تظهر سيارة سالم، الفولكسفاغن العتيقة والمرممة بالكامل بأسلوب "الهيبي" الغربي، وهي تجوب شوارع القرية برومانسية مفرطة على وقع أنغام الة الاكورديون في مشهد يُشبه الأفلام الأمريكية والفرنسية في الستينيات، لينتهي بها الامر عند مئذنة مسجد القرية. من غير الواضح إذا كان هذا المشهد ساذجا ام مبالغ فيه بشكل مقصود، أميل الى الاعتقاد بأنه لم يكن مقصودًا.
يُلاحظ التوتر والتناقض أكثر وضوحًا بشخصية سامي والى ما ترمز اليه. سامي، ذاك الشرطي، الذي يعمل في جهاز الدولة. لا نعرف تمامًا على مدار الفيلم فيما إذا كنا نحبه ام نراه بغيضا. فهو تارة ذلك الوغد المتنمر المقرب من السلطة والذي يستغل سلطته وتارة أخرى ذاك الرقيق، "أبو الجار" وابن البلد الذي لا يتوانى بتقديم يد المساعدة عند الحاجة.
الانتصارات الصغيرة
بعيدًا عن الدراما الكبرى، يحتفل الفيلم بالانتصارات الصغيرة: زرع أشجار الزيتون في وجه الهوائية، بناء نظام للريّ لرشق الشرطة بالماء لإهانتهم وابعادهم من الارض، والقتال لإبعاد الهوائيات من اجل صحة السكان وسلامتهم بينما تدخن سيجارتك بكل "وقاحة" وعدم اكتراث لكاميرات المراقبة.
"رجل بلا موبايل" ليس فيلمًا عن الاحتلال فحسب، بل هو فيلم عن الاستعمار. الاستعمار الصامت، البطيء الذي يزحف في كل زوايا تفاصيل الحياة ولا يُرى دائما. انه الجندي الذي يتحدث بالهاتف غير مكترث بباص الناصرة – حيفا المار بقرية اكسال الصغيرة، انه الفتيات بزي النحل يدعونك لاحتفال مهم لإنقاذ الطبيعة والكوكب على أنقاض قرية تهجرت وجُففت وديانها على يدهنّ. انها بقعة الأرض الصغيرة في منتصف كروم الزيتون التي صودرت عام ١٩٧٢ بعبثية لإنشاء هوائية لاسلكية في عام ٢٠٠٩. هنا يكمن ذكاء الفيلم في رأيي. هنا ينجح سامح زعبي في فيلمه، حتى وان لم يكن بشكل كامل، في بناء قصة بسيطة متعددة الطبقات غنية بالسخرية، والكوميديا بينما يمنحك مساحة لترى الحقيقة التي يعيشها الفلسطيني بالداخل المحتل كما هي: متناقضة، ساخرة، وقاسية في آن واحد.
٢ التغريبة الفلسطينية (مسلسل ٢٠٠٤) وحيد سيف، اخراج حاتم علي، بطولة خالد تاجا، جمال سليمان وتيم حسن.
(تمت كتابة هذا المقال ضمن ورشة كتابة مقال النقد السينمائي)