ضيف من ذهب: احكي للعالم عن الاحتلال
يمامة خالدي

(الصورة عن IMDb)

 

 تدور أحداث فيلم "ضيف من ذهب" للمخرج سعيد زاغة في بلدة فلسطينية واقعة تحت الاحتلال، داخل منزل عائلة تتحضّر لاستضافة أقاربها على مائدة غداء. في هذا الفضاء الحميمي، الذي تزينه لوحة لسليمان منصور تُصوّر امرأة فلسطينية تحمل القدس فوق رأسها، تنقلب الأجواء تدريجيًا إلى توتر وتصعيد غير متوقع. يُبرز الفيلم تعقيدات الحياة اليومية تحت الاحتلال، ويكشف هشاشة الفاصل بين الخاص والعام، وبين السياسي والشخصي، كما يطرح تساؤلات حول الهوية، الانتماء، والسيطرة على الفضاء الفلسطيني. إلى جانب ذلك، يتناول الفيلم تباين وجهات النظر بين الأجيال المختلفة فيما يتعلق بفكرة المقاومة، والتعامل مع واقع الاحتلال، مما يفتح حوارًا داخليًا حول معنى الصمود وشكل المواجهة.

 

 جملة "احكِ للعالم عن الاحتلال" قالها نبيل، ربّ المنزل، للغريب الذي دخل المساحة لم يتوقعوه. قيلت في لحظة توتر وتصعيد، بعد أن اكتشف أهل المنزل وجود الجيش الإسرائيلي في الخارج واستشعروا الخطر المتزايد. اختيار نبيل توجيه هذه الجملة لشخص غريب لا يعرف عنه شيئًا يحمل دلالة عميقة؛ فهي ليست مجرد طلب لنقل معلومات، بل تعبير عن حاجة داخلية للاعتراف، لسماع الصوت الفلسطيني، ومحاولة الوصول إلى ردّ فعل خارجي في مواجهة واقع يومي من القهر والتجاهل. هذه الجملة لا تنبع فقط من هذا المشهد المحدد، بل تتجاوز اللحظة لتختزل واقعًا أوسع يعيشه الفلسطيني تحت الاحتلال، حيث تصبح الحاجة إلى من يحمل الرواية صرخة في وجه الصمت الدولي. هذا القول يشغل مكانة في الوعي الفلسطيني، إذ يُقال كنداء متكرر طلبًا للمساعدة، لا بهدف إيصال معلومات فحسب، بل أملًا في تحريك الضمير الخارجي. ورغم أن نبيل تلفّظ به كرد فعل على وجود الجيش في البلدة، فإن صداه يمتدّ ليعكس الواقع الواسع الذي يعيشه الفلسطيني داخل الاحتلال وتحت رحمته؛ الإشارة إلى أن نايف "خرّيج حبوس" تعزز هذا البعد، إذ تكشف عن آثار الاحتلال على حياته الشخصية وتضفي على الجملة ثقلًا وجوديًا وتجربة مباشرة من القمع، مما يضفي شرعية وألمًا على ندائه.

 عبارة "بيقولوا المقاومة خطفته" تُقال على لسان طفل لا يتجاوز الثانية عشرة من عمره، يرتدي الكوفية الفلسطينية ويحمل زجاجة حارقة يحاول إشعال فتيلها. يظهر الطفل كوجه رمزي للمقاومة، وكأنه يسعى ليأخذ مكانًا فعليًا في الفعل النضالي، مستندًا إلى روايات متداولة حول اختطاف مستوطن. من خلال هذا المشهد، يعرض الفيلم تباينًا واضحًا بين الأجيال: الطفل يُجسّد اندفاع جيل صغير يرى في المقاومة بطولة ومجالًا لإثبات الذات، بينما تمثّل المرأة التي تحاوره صوت الحذر، إذ تقول له "ارجع عالبيت، بسرعة"، محاولة ثنيه عن فعل قد تكون له عواقب خطيرة.  مما يبرز فجوة في القراءة والتفاعل مع الواقع تحت الاحتلال.

 هذا التباين لا يقتصر فقط على المواقف، بل يشير إلى تباين في التجارب والمرجعيات؛ الطفل لم يعش صدمات الماضي كما عاشها الكبار، وربما لهذا يحمل نظرة أكثر تبسيطًا أو حماسية للفعل المقاوم. في المقابل، تبدو المرأة أقرب إلى إدراك ثقل الواقع وتعقيده، وتخشى على الطفل من العواقب. يُحتمل أن المخرج يسلّط الضوء هنا على هذا الفارق، لا بالضرورة كنوع من النقد المباشر، بل كطرح سؤال مفتوح حول معنى المقاومة، من يملك الحق في ممارستها، وكيف تتوارث وتُفهم بين الأجيال. المشهد يعكس واقعًا يعيشه المجتمع الفلسطيني تحت الاستعمار، حيث تتشكّل الرغبة في التغيير في وعي الأطفال قبل أن تُصقل بتجربة الكبار.

 في الجملة الأولى، "احكِ للعالم عن الاحتلال"، تتجلى حاجة ملحّة إلى ردّ، إلى اعتراف خارجي، وإلى إثبات الوجود الفلسطيني في مواجهة التجاهل الدولي. أما في الجملة الثانية، "بيقولوا المقاومة خطفته"، تنبع منها الحاجة إلى الفعل، إلى المشاركة المباشرة، كما يتجسّد ذلك في صورة الطفل الذي يحمل زجاجة يرتدي الكوفية. تكشف هاتان العبارتان مستويين مختلفين من التعامل مع الواقع: الأول يعبّر عن رغبة في إيصال الصوت وانتزاع رد، والثاني يسعى إلى تنفيذ فعل مقاوم. كلاهما يشكلان مشهدًا مركبًا من أشكال المقاومة الفلسطينية، ويعبّران عن تداخل النداء بالفعل، والصوت بالصراع.

  في نهاية الفيلم، وبعد دخول الجيش الإسرائيلي إلى المنزل بطريقة عنيفة واستجواب أفراد العائلة وإهانتهم، ينكشف أن الغريب ليس مخطوفًا، بل إسرائيلي دخل البلدة عمدًا يختلق قصة أَسر، أملًا في استعادة حبيبته السابقة. رغم هذا، ينسحب الجيش ببساطة بعد معرفته الحقيقة، وكأن كل ما حدث من ترهيب واقتحام للمساحة الفلسطينية لا يستوجب محاسبة. وهنا يظهر الواقع العاري: حتى بعد انسحاب الجيش، تبقى آثار الاقتحام شاخصة؛ آثار الرصاص على الجدران، اللوحة الممزقة لسليمان منصور، الباب المخلوع، والبيت الذي لم يعد كما كان. يدرك المشاهد أن الاحتلال لا ينتهي بخروج الجنود من الباب، بل يظل حاضرًا في التفاصيل الصغيرة: في الخوف المتجذر، في الشك، وفي هشاشة الحياة اليومية تحت رحمته. ما تتركه هذه القوة العابرة يتجاوز الفعل العسكري اللحظي، ليمتد إلى البنية النفسية والجسدية، المكان وساكنيه.

(تمت كتابة هذا المقال ضمن ورشة كتابة مقال النقد السينمائي)

 

جميع الحقوق محفوظة © 2024