ضيف من ذهب: دخيلان؛ واحد معنا والآخر علينا
أصالة حسن

(الصورة من IMDb)

سوءُ تفاهم بسيط يقود إلى كارثة.. سرعان ما تنقلب الأمور رأسًا على عقب بعد زيارة مفاجئة من سائح أمريكي إلى بيت عائلة فلسطينية. تتعقّد الزيارة أكثر مع فرض حظر تجوّل من قِبل الجيش، فتبدأ الشكوك بالتسلّل، وتنكشف التوتّرات الكامنة تحت سطح الحياة اليومية.

في فيلم "ضيف من ذهب" للمخرج  سعيد زاغة، تتكرر صورة الاحتلال المتغلغل في تفاصيل الحياة اليومية، حتى في أبسط اللقاءات بين الشخصيات. المشهدان اللذان يركّزان على مواقف داخلية تبدو عادية؛ جلسة  نبيل والضيف آدم حول طاولة، وزيارة مفاجئة عند الشباك بين حسنة والطفل يزيد. يكشفان عمق التوتر النفسي، الاجتماعي والسياسي الذي يعيشه الفلسطينيون تحت الاحتلال. هذان المشهدان يعكسان بشكل مباشر العبء الثقيل الذي يثقل كاهلهم، سواء من خلال الحواجز العسكرية المنتشرة في الحارة، أو من خلال الشائعات والأخبار التي تُروّع المجتمع، وتشير إلى هشاشة الحقيقة في ظل بيئة مشبعة بالخوف.

العالم دون فلترة

في المشهد الأول، بعد أن كانا على وشك الخروج، نشاهد انتشار الجنود والحواجز في الشارع، ما يشير إلى واقع الاحتلال الذي لا يترك فسحة للحركة أو للحرية، كأنها سجن مفتوح. عند العودة إلى الطاولة، ينبثق خطاب نبيل ويقول: "بس ترجع على بلدك احكيلهم عن الاحتلال"، هذه الكلمات ليست مجرد طلب عابر، بل تكليف معنوي يتحمّله الفلسطينيون ليكونوا شهوداً وناقلين لمعاناة شعبهم للعالم الخارجي، خصوصاً لأولئك الذين لا يلمسون هذا الواقع بشكل مباشر. في هذه الجملة، نبيل لا يخاطب آدم كشخص فقط، بل كرمز للغرب أو للغريب، الذي يزور ويشاهد لكنه غالبًا ما يعود دون أن يحمل شيئًا من ثقل التجربة. هنا، تحوّل الضيف من مجرد زائر غريب مُحايد إلى شاهد وحامل رسالة، شخص مطلوب منه أن يكون صوت الحقيقة. ولكن هناك خلل واضح في ميزان القوى؛ نبيل كثير الرماد، رغم أنه صاحب الأرض، يبدو في موقف المُضطر لتفسير واقعه، للمطالبة بأن يُروى عنه شيء. المشهد يدمج بين التوتر الخارجي (وجود الجنود ونشر الحواجز) والتوتر الداخلي (مسؤولية توصيل الرسالة وهاجس إيصالها)، ليُظهر كيف يحتل الاحتلال كل زاوية من حياتهم، حتى اللحظات الخاصة، ويكشف أيضاً الإحباط العميق والرغبة في أن يرى العالم الحقيقة دون فلترة. 

وما يجعل هذا المشهد أكثر إيلامًا هو أنه لا يعكس فقط لحظة آنية، بل يحمل في طياته تكرارًا لتجربة جمعية: كم مرة جلس فلسطيني أمام غريب ليشرح واقعه؟ كم مرة روى القصة ولم تُسمع؟ في هذا السياق، تتحوّل الجملة إلى صدى لليأس، لا مجرّد أمل. إنّ الحاجة لتبرير الوجود أو شرح الألم، حتى من داخل البيت، تكشف أن الاحتلال لا يقتصر على الحاجز في الخارج، بل يتسلل أيضًا إلى اللغة، إلى الطاولة، إلى العلاقة بين المُضيف والضيف.

مقاومة فطرية

أما المشهد الثاني، فيحمل بعداً مختلفاً لكنه متصل من حيث الجو العام. حيث يقدم لحظة شديدة التكثيف، تمزج الواقع بالقلق والرمزية. حين يطرق الولد الشباك، يبدو الصوت الأول الذي نسمعه هو صوت قلق متصاعد قبل ظهور الولد نفسه، ما يخلق حالة من التوتر والترقب. الذي يظهر بعدها الطفل يزيد الذي لا يتعدى الثانية عشرة من عمره، مُرتدياً الكوفية ويحمل في يده زجاجة مولوتوف يحاول إشعالها، لكن عبثًا. المشهد يضع أمامنا صورة مؤلمة؛ طفل صغير يتقمّص دور المُقاومة، لكنه غير قادر على تفعيلها، كأنة يقلّد شيئًا أكبر من حجمه، أو يعيش نسخة مُشوّشة من البطولة، لكنها أيضاً مقاومة مرتبكة، بل عاطفية وغير ناضجة طفولية فطرية. هذه الصورة البصرية لوحدها تختصر مأزق جيل بأكمله، جيل يعرف المقاومة كشيء ضروري، لكن أدواته لا تزال ضبابية.

 من زاوية نظر صاحبة المنزل الداخلية فقط، ما يعمّق الشعور بالانغلاق والانعزال، وكأنها تُحاول حماية عالمها الداخلي من هذا الاقتحام الطارئ. تتكشف المحادثة التي يقول فيها يزيد: "بقولوا المقاومة خطفته"، هذه العبارة تعكس حالة اللايقين والريبة المُنتشرة، حيث لا يُعرف أين الحقيقة وأين الشائعة، لا نعرف من قال، ولا إن كان الكلام حقيقي، لكن ثقله واضح. وكيف تتحول الأخبار إلى أدوات للخوف والسيطرة والتشويش. الجملة تنقل الخوف بطريقة مُلتوية، لا مُباشرة، وتكشف كيف يتشكل وعي الأطفال في بيئة مشبعة بالإشاعات والتهديدات، لدرجة أن طفلًا في هذا العمر يصبح رسولًا لقلق جماعي. وهنا تدخل السياسة كعامل مُربك، ليس فقط كعدو خارجي بل كفوضى داخلية أيضاً. رد حسنة المختصر والمُجحف: "روح على البيت"، يحمل في طياته أكثر من دلالة. يبدو قاطعًا، لكنه لا يخلو من هشاشة. من جهة هو دفاع ذاتي ضد التورط، ورغبة فطرية في الإغلاق، في عدم فتح الباب أمام ما لا يمكن السيطرة عليه. ومن جهة أخرى هو محاولة لحماية البيت كمساحة خاصة، نظيفة من الفوضى. وربما أيضاً يحمل تعبيرًا عن الإرهاق النفسي ورغبة بالصمت، كأنها لا تريد أن تعرف أكثر مما تعرف. 

ردها ليس رفضًا للولد، بل لما يمثله: حضور الخارج داخل الحميم، حضور الخطر داخل المكان الآمن. في هذه اللحظة الصغيرة، يكشف الفيلم كيف تتسرّب السياسة إلى أدق تفاصيل اليوم، وكيف يصبح البيت؛ آخر ما تبقى من ملجأ، هشًا أمام طفل عمره اثنا عشر عامًا، يحمل نارًا لا تشتعل، وخبرًا لا يُعرف إن كان حقيقيًا أم لا. المشهد يُظهر كيف أن الواقع الفلسطيني مليء بالضغوط النفسية والسياسية التي تعيد إنتاج نفسها في كل لحظة، وتكشف كيف يتحول الخوف إلى رد فعل يومي، حتى في وجه أبسط الجمل.

حياة في ظل مزاج عابر

وفي نهاية الفيلم، يصل التوتر إلى ذروته عندما يقتحم الجنود المنزل، ويبدأون باستجواب العائلة حول وجود الضيف الأمريكي آدم، وسط شكوك متصاعدة بأنه قد  اختُطف. يتحوّل وجود الضيف من لحظة ضيافة عابرة إلى تهديد أمني. لكن التوتر ينقلب فجأة عندما يظهر خبرعاجل على شاشة التلفاز يكشف أن آدم اختلق القصة بهدف استعادة تعاطف صديقته السابقة. في لحظة واحدة، يصدر أمر بالانسحاب، ويغادر الجنود المكان كما لو أن شيئًا لم يحدث. عند الباب، يلتفت أحدهم ويقول للعائلة ببرود وبالعربية المكسّرة: "آسفين، بالغلط"، هذه الجملة العابرة، المنطوقة بلغة مكسّرة، تختزل الكثير، لا اعتراف حقيقي بالخطأ، ولا محاولة لفهم الضرر، بل مجرّد صوت خارجي يقتحم لغتك دون إتقان، ويتركك مع أثره. لا يُصلح الاعتذار ما حدث، ولا يزيل آثار الاقتحام، بل يكشف كم أن الحياة اليومية تحت الاحتلال واقعة في ظل مزاج عابر، أو على سوء تفاهم بسيط. يغادر الجنود، لكن الفراغ الذي يتركونه أكبر من وجودهم: شك، هشاشة، وصمت لم يعد بريئًا. 

وفي ظل هذا الصمت، لا تعود الحياة إلى طبيعتها، بل تنكشف هشاشة هذه "الطبيعة" التي طالما تغطّت بالنجاة المؤقتة. في ضيف من ذهب، الاحتلال ليس مجرد حضور عسكري، بل حالة نفسية مستمرة، تتغلغل في اللغة، في التفاصيل، وفي الشعور اليومي بعدم الأمان. وحتى حين يغيب، لا يغادر فعليًا، بل يترك وراءه واقعًا هشًا، يحتاج وقتًا طويلاً حتى يُشفى - إن شُفي.

(تمت كتابة هذا المقال ضمن ورشة كتابة مقال النقد السينمائي)

جميع الحقوق محفوظة © 2024