(الصورة من بوستر الفيلم)
هل يمكن أن تُلقي جريمة ارتُكبت بين بالغَين بظلالها الثقيلة على طفولة ما تزال تبحث عن طريقها؟ وهل يمكن للطفل أن يُجبر على حمل وزر دون ذنب، وعلى إصلاح شرخ لم يُحدثه؟
في فيلمه القصير “مُرجيحة”، يقدّم شادي حبيب الله عملاً حسّاسًا ومتقشّفًا لا يعتمد على ضجيج الحركة، بل يستند إلى الانتقال بالطفولة من براءتها الأولى نحو حواف الخبث المبكر، مستعيضًا عن الصراخ بالهمس، وعن المواجهة المباشرة برصد أشكال العنف الخفي وتجلّياته الصامتة.
ينتقل الطفلان رشا ومهند إلى بيت جدتهُم في قرية جديدة بعد مأساة عائلية طُويت بدم وبقيت بلا عزاء؛ الأب قتل الأم، وترك خلفه طفلان يحاولان فهم العالم بعد أن انكسر داخل جدران بيتهم. هناك، في أرض غريبة، يحاول مهند الاندماج مع أولاد الحي، بينما تبقى رشا منعقدة اللسان، غائبة جسديًّا عن الفعل، حاضرة ذهنيًّا بالتعليق الصوتي الذي يرافقنا طَوال الفيلم.
اللغة المفقودة
رشا لا تتكلم. جسد حيّ لكن خافت، كأن الكلام انزلق منها بعيدًا بعد أن ارتُكبت الجريمة، وفي عالم السينما، حين تصمت الشخصيات، تبدأ الصورة بالكلام، لكنها ليست صامتة تمامًا. على امتداد الفيلم، نسمع صوتًا داخليًا يروي لنا الحكاية من شقوق الذاكرة، لا من تسلسل الحدث. مونولوج شفاف، كأنه تدوين داخلي، لا يشرح، بل يُلمّح، لا يحتجّ بل يصف. هو التماسك الوحيد المتبقي، وهو أيضًا ما يصوغ زمن الفيلم. فالتعليق الصوتي لا يرافق الحدث، بل يسبقه أحيانًا أو يتبعه، كما لو كان ذاكرة تتذكّر وهي لا تزال تصنع.
الاخرس ليس عاجزًا، فهو الحُرّ الحقيقي، بل متعالٍ على اللغة؛ تحرر من عبء التفسير ومن مطاردة المعنى، لا يُبرّر، لا يطلب تفهُّمًا ولا يُقدّم اعتذارًا. كأنما زهد في الكلام، وآثر أن يكون شاهدًا لا يصرخ، لا يلعن ولا يشتكي. وحده حمل ألمه بلا صوت، فصار أكثر صدقًا من كُلّ المُتكلمين.
“حسيت هاي اللحظة رح تيجي... ما حدا رح يقدر يساعدنا”، صوت رشا يمرُّ كأنّه ارتجافه في جوف السكون. هذه الجملة، وسط الفضاء البصري البارد للفيلم، ليست مجرّد تعبير عن شعور، بل إعلان وجودي عن مأساة لا صوت لها. مُرجيحة ليس فيلمًا عن الطفولة، بل عن الشظايا التي تنغرس في لحمها حين تتفجر العائلة من الداخل، إنه ليس عن جريمة قتل ارتكبها الأب بحق الأم، بل عن الامتداد الزمني لتلك الجريمة، عن التشققات التي تنتشر بهدوء في قلوب لم تكتمل بعد، عن سؤال: من هم الضحايا الحقيقيون للعنف؟
تقول رشا في أحد أقسى لحظات التعليق الصوتي: “كُنت بحكيله إنّه معه بحسّ بأمان”، لا يخرج هذا الكلام من فمها، بل من أعماقها، كأنه نداء لم يُوجَّه. الأمان الذي تصفه ليس حالة شعورية مؤقتة، بل حاجة وجودية في عالم انقلب على رأسه، وفي عائلة غاب منها المعنى قبل غياب الجسد. مع ذلك، حين تقترب من التعبير المباشر، من البوح، من تحويل هذا الصوت الداخلي إلى علاقة ملموسة، تنهار على العتبة: “بس ما قدرت”، ثلاث كلمات ثقيلة، تنزلق من وجع ممتد، وتُجسّد كل ما يمكن أن يُقال حين يُخنق الصوت في الحنجرة، وحين يصبح الاعتراف فعلًا مستحيلًا، حتى في أقرب الروابط. الصمت هنا ليس عجزًا، بل موقفًا. مأوى هشّ من عالم أكبر من قدرة الأطفال على فهمه.
ووسط كل هذا، يصرخ مهند من أعلى الشجرة: “اهربي!"، هذه الكلمة الوحيدة الصارخة وسط فيلمٍ هادئ، ترتجّ كناقوس في فراغٍ أخلاقي كبير، وتُعلن أن الأطفال هنا هم مَن يحمون، لا مَن يُحمَون.
رشا ومهند ليسا مجرد طفلين انتُزعا من بيتٍ مُحطم، بل هُما صورة لجيل مَكلُوم يُسلَّم له إرث الكبار من الخوف والانكسار، دون أن يُسأل، ودون أن يُعفى.
حضور الأشباح وغياب البالغين
منذ بداية الفيلم، نلاحظ غيابًا لافتًا للكبار. لا تظهر الجدة، لا تظهر الأم إلا في خيال رشا، والأب غائب كفاعلٍ لا يُغفر له. لا نرى شخصًا بالغًا واحدًا. لا مُعلّم، لا جار، لا مُراقب. كأنَّ كل ما تبقّى من العالم هو مجموعة أطفال يُربّون أنفسهم بأنفسهم، ويتقاذفون تبعات مأساة لا يعرفون كيف يفهمونها.
الغياب الأنثوي صارخ، رشا هي الأنثى الوحيدة في الفيلم، ليس فقط من حيث الشخصية، بل من حيث الحضور الصوتي. لا نرى أمها، ولا جدتها، نسمعهما فقط من خلال كلماتها، حتى في اللحظة التي تتخيّل فيها رشا حضور أمها خلف عدسة الكاميرا، لا نسمع صوتًا. الصورة وحدها تتكلم، لتُظهر مدى القمع الذي يطال الإناث في هذا العالم السينمائي الرمزي. حتى البيت "بيت ستي”، كما تقول رشا، لا "بيت سيدي”، المفردة ليست عفوية، بل إعادة تمركز لمكانٍ لا صوت له. حضور الأنثى في الفيلم هو حضور مُضطهد، غائب، أو مُخترق؛ كما في مشهد المرجيحة حين يُصبح جسد رشا مادة للتنمر والتصوير دون إرادتها. هذا الإقصاء المزدوج، من العالم الواقعي ومن اللغة، يُشكّل مِرآة لواقع اجتماعي أوسع، حيث الجسد الأنثوي يُعرّف بالغياب أو الانتهاك.
ولعل اختيار المخرج لحصر الأسماء في رشا ومهند دون سواهما، هو محاولة لتجريد البقية من تفرّدهم، وكأنهم مجرد رموز اجتماعية قابلة للاستبدال. لا أسماء، لا وجوه واضحة، لا ملامح أخلاقية مستقرة. الجميع مُبهم، عدا من يحمل الذاكرة والصدمة.
حين تفقد الطفولة براءتها
يبدأ الفيلم بسكينٍ في يد طفل. ليس هذا مشهدًا عنيفًا بحد ذاته، لكن مجرد وجود السكين في يد طفل، يُفقد الطفولة شيئًا من براءتها. نحن أمام أول خرق للبراءة، حين تُدخل أدوات الحياة القاسية إلى لعبة الطفولة. الأسئلة لا تُطرَح في الفيلم، بل تترك للمُشاهد أن يتساءل، ويشعر بعدم الارتياح.
في مساحة اللعب، مباراة كرة القدم، شتائم عابرة، وتنمّر ناعم. مهند يحاول الدخول إلى هذه المنظومة، لكن أول ما يُواجَه به هو شائعة، منذ اللحظة الأولى، لا يُروى الحدث عبر مندوب الشرطة ولا عبر عناوين صحف، بل من خلال جملة عابرة على لسان ولدٍ عادي في ساحة لعب: “بقولوا إنو أبوه ذبح أمه، مسكوها على الحامي”. إشاعة أم حقيقة؟ من أوصل هذا الخبر إلى آذان الأطفال؟ وكيف تحوّل جرح داخلي إلى مادة للنبذ والتنمّر؟، لا نعلم. هكذا، بصوت طفولي لا يملك من الوعي سوى ما التقطه من شائعات البلدة، نُلقى نحن المشاهدين في صُلب المأساة. الجريمة صارت إشاعة، الإشاعة صارت مادة للتنمّر، والتنمّر صار طريقًا نحو عنف يومي يعيشه الطفل.
ثم تأتي اللحظة المفصلية: المُرجيحة. لعبة الطفولة التي تتحوّل فجأة إلى تهديد. يُقترَح على رشا ركوب المرجيحة، للحظة، يبدو المشهد بريئًا، ثم يطير فستانها، وتتجمّع العيون الذكورية حول جسدها الطفولي، ويُشهر أحدهم الهاتف ليصوّرها. صورة تختصر كل شيء: اغتصابٌ رمزي للطفولة، بالعين أولًا، وبالكاميرا لاحقًا. لحظة الكاميرا ليست فقط لحظة انتهاك جسدي، بل لحظة تحوّل الطفولة إلى مشهدية مُسجّلة، إلى صورة يُعاد تداولها، كأن الانتهاك لم يكتفِ بحدوثه، بل أصرّ على توثيقه.
حين يدرك مهند أن أخته تعرضت لانتهاك، يفقد توازنه، يصرخ، يطردهم، ثم يتسلّق الشجرة ويبدأ بقصّ الحبل. المرجيحة، هنا، لم تعد لعبة، بل مكان الخيانة. حين يقطع الحبل، كأنه يحاول قطع السلسلة كلها، ما قبل الحادثة، وما بعدها، كمن يحاول قطع حبل سرّي بينه وبين طفولته، بينه وبين الذكرى.
وفي مشهد آخر، الولد الذي تراجع عن رمي الحجر، ألقاه أرضًا وغادر. هذا الفعل، وإن كان صغيرًا، يحمل في جوفه رفضًا للعنف، وتمردًا على القطيع.
وفي ذروة الصدمة، حين يظهر خيال الأم تمسك بالكاميرا، في لحظة خيالية باذخة بالدلالة. تُصوّر رشا ومهند بدل أن يُصوَّرا من قبل الطفل المعتدي، نلمح تعويضًا داخليًا رمزيًا. كأن الطفلة أعادت كتابة المشهد، وأعطت أمها الدور الذي كانت تتمنّى أن تؤدّيه: الحماية، الحضور والاحتضان.
بصيص آمل: من اليابس إلى الأخضر
رغم كل ما سبق، لا يسقط الفيلم في بؤس مُطلق. بل يزرع، بلطفٍ شديد، إشارات إلى إمكان التغيير. في بداية الفيلم، تمرّ رشا بأصابعها على سنابل قمح يابسة، ميته لا حياة فيها. في النهاية، تلمس السنابل ذاتها وقد اخضرّت. قد يبدو هذا تفصيلًا بصريًا بسيطًا، لكنه يحمل استعارة كاملة عن التحوّل، عن الزمن، عن عودة الدم إلى الوريد اليابس. تقول رشا: “زي ما الطبيعة بتغيّر ألوانها، الحياة كمان بتغيّر”. هذه الجملة وحدها تلخّص فلسفة الفيلم: لا خلاص خارجي، بل تبدّل داخلي، لا معجزة، بل تدرج في التئام الجرح. هذا التبدّل لا يعني النسيان، بل يعني أن الحياة، برغم كل شيء، قادرة على الاستمرار.
"مُرجيحة" ليس فيلمًا عن القتل، بل عن صدى الجريمة حين يتحوّل إلى إيقاع داخلي في نفس الطفل. لا نرى دماء، لكننا نرى أثرها يتسرّب إلى كل مشهد، لا نسمع صراخًا، لكن الصمت نفسه يدوّي كأنّه شهادة على ما لم يُقل. رشا لا تتكلم، لا نعرف إن كانت كذلك منذ الولادة، أم أن الصدمة نزعت عنها القدرة. هل كانت شاهدة على لحظة القتل؟ هل فُقد صوتها يوم فُقدت أمّها؟ لا يُعطي الفيلم إجابات واضحة، لكنه يتركنا أمام شخصية مأزومة، مُحاطة بالأحداث، محرومة من اللغة، ومع ذلك قادرة على أن تكون راوية الحكاية. أما مهند، فلا يبدو مجرّد طفل غاضب، بل مَن تحوّل قسرًا إلى وليّ أمر، يُقاتل كي يحمي لا ليرتَاح، يصرخ ثم يسكت، يركض ثم يصعد شجرةً ويقطع الحبل.
لا تُنزل العدالة عقوبتها في هذا الفيلم. لا مشهد لمحاكمة، لا شرطي، لا معلم ولا حتى وجه بالغ يواجه المأساة. فقط أطفال يُكرّرون المأساة بصيغ مصغّرة، كل شيء يسير على جرحٍ مفتوح، وكل ما نشاهده ليس مشاهد، بل ندوب.
لكن رغم هذا كلّه، يُبقي الفيلم على احتمال صغير للنجاة: ولد يُسقِط الحجر، قمح يتبدّل من يابس إلى أخضر، حضنٌ غير متوقّع، أو جملة رشا: “زي ما الطبيعة بتغيّر ألوانها، الحياة كمان بتغيّر".
فهل يكفي أن ننجو كي نتجاوز؟ وهل يمكن لذاكرةٍ مليئة بالأشباح أن تجد مخرجًا، دون أن تُحرق نفسها أولًا؟
(تمت كتابة هذا المقال ضمن ورشة كتابة مقال النقد السينمائي)