هل تلد النساء في الجنة؟
سماح بصول

(الصورة من الفيلم)

في حضرة غزة لا يبقى شيء على حاله، لا التلقي ولا المفاجأة ولا الابتهاج، ولا التعاطف. على الرغم من أن الحكاية في فيلم "قرية قرب الجنة" تأتينا من الصومال، إلا أن الصمت الطويل في مشاهده الساحرة يدفعني لاستذكار البلاد المنكوبة واستبدال مآسي الشخوص الماثلة أمامي على الشاشة بمآسي أشخاص آخرين أشاطرهم ألمًا يتابعه العالم كله عبر شاشة.
تجارب طفل للاحتماء من المُسيرات بالاستلقاء على الأرض وحماية الرأس باليدين، دفن الموتى باستخدام الآلات، ومشاركة في تشييع طفلة لم تبلغ من العمر أكثر من قبر طوله متر واحد، والبحلقة في وجه والدتها التي تختار المكوث طويلاً قرب قبر حفر عشوائيًا في رمل اللامكان، كانت كلها رهينة انقباض القلب الذي لا يبرح البلاد حتى خلال مشاهدة فيلم!
قبل دخول قاعة العرض قال سائق سيارة الأجرة ردًا على سؤالي "كيف الحال؟":البلد تدفعك للبقاء في القاع، تعيش يومك، تَقمع وتُقمع، تشتبك مع المماطلة المتفشية فترديك سجينًا في دوائر القهر لكنك تقول الحمدلله.

الجنة جهنم بدائية

في الصحراء المجاورة للبحر قرية تسمى "بارادايس" لكنها جهنم بإعدادات بدائية، تحرق ساكنيها بالجفاف، وتكوي أجسادهم بالاستغلال والفقر، تدفع بقيمة الإنسان نحو أدنى المستوياتـ وتهدد ما تبقى من أمن بارتفاع درجات السلاح. تتشابه أشكال عمالة الفقراء، ومجالاتها، كلها أعمال تعيسه تستغل العوز لتلقي بالإنسانية في هاوية سحيقة.
في فيلمه "قرية قرب الجنة" يقدم لنا مو هاراوي (الصومال ٢٠٢٥) مئات الصور المذهلة التي تصطف واحدة تلو الأخرى لتشكّل معًا عملا يثير التساؤلات حول الإنسان، والفطرة، والوالدية والحب والموت. يفاجئنا بكل هدوء، يقلب الموازين بخفة، ويروي لنا الكثير من خلال صمت يتكرر.

في الفعل والمجاز

ان هذا الفيلم الذي يروي حكاية قرية يلفها الكثير من البؤس، يشبك الأشخاص والأحداث، وينسج الكثير من الاستعارات. فالحياة فعلية ومجازية، والموت كذلك، وقيمة الإنسان لا تقاس بما حققه في حياته، بل بتكاليف حفر قبره عند مماته، لم يعد الناس يرغبون بحفر القبور يدويًا، سرعة الموت تفوقت عليهم فصاروا يحتاجون قبورًا أكثر وأكبر وأعمق، تأتي الحفارات لا لتحفر قبورًا فعلية فقط، بل تحفر قبورًا مجازية للأيدي التي تعطلت عن العمل. كم قبرًا حفرت صار معطى في سيرة ذاتية.
ولأن طيف الموت يحوم كثيرًا في المشاهد، فموت المشاعر بادٍ في مواقف يتوقع أن يطغى فيها العناق والدموع، والكثير من اليُتم، يُتم لفقدان الأهل في البحر أو قتلًا بالمواد الكيماوية، ويُتم ضمني في التبني السري، ويُتم الفقير من حكومة لا تجعل لحم جسده مشاعًا للجشع.

من يأتي لاصطحابك إلى البيت حين تكون يتيمًا؟ لا أحد، تعيش في منصب اليتيم حيث وليت وجهك.

مرآة للحياة والموت

في مرآة مكسورة تنظر امرأة إلى نفسها بعد تلقي حكم بالطلاق، إشارة واضحة إلى معنى أن تكوني امرأة مطلقة في بلاد يحكمها جوع للحياة والكرامة والأمل. لكن تلك المرأة التي تتحلى بالإصرار تكسر المتوقع، ويخرج منها كائن قادر صامد جسور. ومحب.
لم تُنتج هذه المرأة في رحمها طفلًا، لكن السماء أهدت إليها طفلًا مميزًا، وكأنها تعوضها عن فقدان لم يلوعها. هذا الطفل "سيجال" كان كثير الأحلام، كان يرسم الأفكار التي لم يفهمها غيره، وكان يرى نفسه في جنة مصنوعة من الحلوى.
وهناك امرأة أخرى، أهداها الرحم بنتًا لكن القدر نقلها إلى دار أخرى، تناقش هذه الأم تكاليف حفر قبر ابنتها، تجلس قرب الجثة  مستفيئة بظل شجرة نمت في مكان أصفر باهت واسع بارد، تنتظر حتى تصبح أضلاع القبر على استواء لتحتوي طفلتها، ثم ترثي رثاءًا عامًا لاذعًا: "الإنجاب ليس امرًا منطقيًا، يموت هؤلاء الصغار، ليس لديهم مستقبل". ليس أصعب من زمان يدفن فيه الأهل أطفالهم، وهذا التساؤل حول الانجاب ومنطقيته يدفعنا للتفكير: هل تلد الأمهات في الجنة؟ هل يختلف معنى الولادة حين تقل فرص الوفاة؟ هل تختلف ممارسات الأمومة حين يكون للصغار مستقبل؟ هل ينجب البشر إرضاءً لأنفسهم ولأنانية فيهم؟ ما معنى الوالدية ومن يصلح لأن يكون أبًا أو أمًا؟
في تلك اللحظة التي تولد في الأسئلة عن الولادة والحياة تولد الأسئلة عن الموت، من يصلي على هذه الطفلة؟ هل يصلي حفار القبور تقنيًا أم يصلي بكامل وجدانه وقلبة رحمة لهذا الجسد الصغير؟ هل يرقص الطفل الصغير فرحًا بجانب القبر لأنه ليس بيته؟
تتزاحم هذه الاسئلة في الرأس ويستعصي حلها حين يلتقي في حكاية واحدة أب يربي طفلًا ليس أبنه، وأخته التي لم تنجب تربي طفله دون أن تعلم أنه ليس أبنه، وهو حفار قبور يحفر قبرًا لطفله في عمر الطفل الذي ليس أبنه.

يبرز الحديث عن ثنائية الحياة والموت في هذا الفيلم الذي ينجح في تناولها بمراوغة ذكية، يدفع بالتفاصيل عميقًا في الأذهان. في كل مشهد تولد حكاية جديدة، في قسمات الفقراء وتنقلاتهم وأعمالهم ومشاكلهم اليومية بعض الموت، وفي ألعاب أطفالهم وفصولهم الدراسية وشجراتهم بعض الحياة، وهناك في الزوايا الصغيرة يتجلى الأب والإبن وتُسترد محاولة الاستنجاد بالأب الذي يغيب، والأم الحزينة التي تبكي طفلها، وتتكرر المشاهد التي يجلس فيها شخصان قرب الشاطئ ينظران بصمت نحو الأفق ولا نعلم كما لا يعلمان ما كتب لهما في صفحة اليوم التالي.

هذا الفيلم متعة بصرية وعاطفية..

جميع الحقوق محفوظة © 2024