مرجيحة.. الشجرة كمجاز للذاكرة
تيماء كيوان ويمامة خالدي

(الصورة من الفيلم)

يتناول فيلم مرجيحة للمخرج شادي حبيب الله قراءة تصويرية لهشاشة الطفولة في مواجهة العنف الأسري. يروي الفيلم قصة أم تُقتل على يد زوجها، تاركة أطفالها يعانون بصمت وسط ضجيج داخلي عميق. مرجيحة هو فيلم قصير يتميز بحساسية عالية وأسلوب بصري وسردي عميق، يعتمد على سرد غير مباشر يركز على الجانب الحسي والوجداني. لا يعرض الفيلم الحدث بشكل مباشر، بل يقدمه من خلال مشاهد صامتة وحوارات داخلية (voice over)، ما يخلق تجربة بصرية وحسية تركز على تأثير العنف على الأطفال بدلاً من تصويره ذاته.

هذا التناول البصري والوجداني في مرجيحة يعكس توجهًا فنيًا متأصلًا لدى مخرجه، شادي بدأ مسيرته الأكاديمية في مجال الهندسة المعمارية، ثم انتقل إلى دراسة السينما، التي كانت شغفًا يرافقه منذ الطفولة، رغم شعوره آنذاك بعدم الجاهزية لخوض تجاربها. في إحدى مقابلاته، عبّر عن إيمانه العميق بأن الفن هو أداة مركزية في تشكيل وعي المجتمع وسرد رواياته، سواء كانت سياسية أو اجتماعية. كما شدد على أهمية البعد الاجتماعي في العمل الفني، معتبرًا أن من واجب الفن تشريح البنى المجتمعية والظواهر التي تسكنها، وطرح الأسئلة حولها. في هذا الفيلم القصير، يتناول شادي ظاهرة القتل على خلفية ما يُسمى بـ"شرف العائلة"، عبر التركيز على تداعياته النفسية والاجتماعية كما تنعكس في وعي الأطفال، الذين لا يملكون من القصة إلا ما سمعوه عرضًا من الكبار.

"كل البلد بتعرف"

يبدأ فيلم مرجيحة بلقطة تظهر فيها سكين تحفر في حجر، دون أي حوار أو صوت بشري. هذه البداية البسيطة تضع المشاهد مباشرة في حالة من التركيز على التفاصيل الصغيرة، وتفتح الفيلم على إيقاع بطيء وتأملي. صوت الحفر المتكرر يشير إلى فعل مستمر، وكأن هناك أثرًا يُترك بهدوء. يقدّم هذا المشهد تمهيدًا بصريًا لدخول عالم يعتمد على الإيماء والذاكرة أكثر من الحدث المباشر. تأتي عبارة: "بحكوا إنو أبوه دبح أمه... مسكوها عالحامي" في بداية الفيلم كإشارة أولى ومباشرة إلى الجريمة التي تحيط بالقصة. الجملة تُقال بصيغة غير مباشرة، وبجمع الغائب "بحكوا"، إضافة إلى التأكيد على أن "كل البلد بتعرف"، ما يضع الحدث في إطار الحديث المجتمعي العام، لا في إطار التجربة الفردية فقط. هذا الاختيار يكشف الكثير عن نظرة المجتمع للعنف الأسري، وعن الطريقة التي تُتناقل بها مثل هذه الحكايات: كأخبار عادية أو شائعات، لا ككوارث شخصية. اللافت في هذه العبارة هو غياب الانفعال. لا تظهر صدمة، ولا يُعبَّر عن الحزن أو الذهول، بل يُؤنّب أحد الأطفال الآخر لأنه لم يكن على علم بالقصة، ما يعني أن من البديهي أن تصل مثل هذه الأخبار إلى مسامع الصغار في المجتمع. تمرّ الجملة ببساطة، ما يعكس نوعًا من التبلّد الجمعي أو التكيّف مع العنف كجزء من الواقع. والذي يثير القلق هو ليس فقط انعدام التعاطف من الولدين، إنما الرغبة الشديدة لبقية الأولاد في مضايقتهم بالاسئلة وحتى إهانتهم، مثلما نعت أحدهم رشا بالخرساء لعدم قدرتها على الكلام، فيأخذ في هذا المشهد العنف صورته على شكل كلام لا يليق بجيل الشخصيات. 

بهذه الطريقة، يُقدَّم الحدث التأسيسي للفيلم – مقتل الأم على يد الأب – لا كاستثناء يربك النظام الاجتماعي، بل كقصة تُضاف إلى أرشيف الحكايات العائلية العنيفة. هذه المقاربة لا تُقلل من خطورة الجريمة، بل تُظهر كيف يُعاد إنتاج العنف من خلال صيغ الحديث اليومية، ومن خلال القبول الضمني به كجزء من "اللي بصير". تتشكل العقدة حول محاولة طفلين الاستمرار في الحياة بعد مقتل والدتهما داخل الأسرة، في ظل غياب تام لأي احتواء عاطفي أو مساحة للكلام. الصدمة التي حملوها معهما لا تجد متنفسًا، بل تتعمق أكثر في بيت الجدة، حيث يسود الصمت، وتبدو الحياة اليومية منفصلة تمامًا عمّا جرى. المحيط الجديد لا يقدّم لهما الأمان أو الفهم، بل يعزز شعور الاغتراب. العقدة هنا ليست حدثًا واحدًا، بل حالة مستمرة من العيش مع غياب، ومحاولة التمسك بما لم يعد موجودًا.

رشا الكلام ومهند الفعل

شخصيتا مهند ورشا تشكلان المحور الأساسي لفيلم مرجيحة، إذ من خلالهما يسلط الفيلم الضوء على تجربة الطفولة في مواجهة العنف الأسري و تبعاته النفسية. يمثل كلٌّ منهما بُعدًا مختلفًا من التفاعل مع الصدمة: رشا من خلال الكلام الداخلي، ومهند عبر الفعل الجسدي. تقول رشا في مونولوج: "كانت تحكيلي انو الشجرة كلما تعلى وتكبر، كلما ذكرياتنا أكثر. من أول ما انتقلنا هون، لبيت ستي، ضيعت ألبوم صورنا الأزرق..." — كلمات تُقال بصوت منخفض وهي تمشي ببطء خلف أخيها نحو الشجرة، تخطو خطوات ثقيلة، وتلامس القمح بيدها بخفة. هذا المشهد البصري يعمّق الإحساس بالفقد والذاكرة المتآكلة، فالألبوم الضائع يشير إلى تاريخٍ شخصي تمزّق، والشجرة التي توقفت على ما يبدو عن النمو تعكس توقف الزمن في داخلها. في هذا الدمج بين الصورة والصوت، يكشف الفيلم ما خيّم على عالم رشا من ألم وانكسار.

 أما مهند، فحضوره يتجلى من خلال الفعل لا القول؛ ما يقوم به بعد أن يقص الحبل ويرفع المرجوحة ثم يجلس على الغصن، يمكن فهمه كتصرف نابع من إحساس بالمسؤولية والخوف، في محاولة لحماية رشا أو لفت الانتباه بعيدًا عنها، يتصرف كمن استشعر خطرًا محدقًا، ويتخذ موقعًا دفاعيًا في الأعلى، يراقب، مستعدًا للمواجهة، بينما يمنح أخته فرصة للهروب. لا يبدو فعله لحظة عبث طفولي، بل استجابة غريزية سريعة تدل على وعي بالمكان وبتوتر الموقف، رغم صغر سنه. جلوسه على الغصن يضعه في موضع مكشوف، وكأن جسده في حالة تأهّب، وقوله "اهربي" يشكل لحظة يقظة، يتجاوز فيها موقع الطفل، ليصبح الأخ الحامي الذي يواجه الخطر وحده. 

 في فيلم مرجيحة، يلعب الصوت والأفعال دورًا متكاملًا في نقل تجربة الأطفال مع العنف والخوف. صوت رشا يرافقنا طوال الفيلم، في سردها تعبر ببراءة ووضوح عن تجربتها القصيرة من خلال مشاعرها الداخلية. بالمقابل تعبّر أفعال مهند عن ردود فعل ومسؤولية متأثرة من ما قد حدث. يجمع الفيلم بين هذين العنصرين ليبرز التأثير النفسي العميق الذي يعيشه الأطفال. 

"هاد أخوي مهند، بالصيف يلي مضى، أنا ومهند كنا نتفرج على ألبوم صورنا لما كنا صغار، وقتها حكتلي أمي إنو ذاكرتنا هي شجرة كبيرة منعلّق عليها صورنا"، تفتح رشا سردها في تعريف المشاهد على العلاقة بين الأخوين وتضعنا في زمن سابق للحدث الرئيسي في الفيلم. الجملة تُقال بصوت هادئ وبسيط، وتمزج بين ذكر تجربة عائلية يومية وبين فكرة المجاز التي نسبت للأم. يعمل هذا التقديم على الربط بين ثلاثة عناصر: الأخ، الأم، والألبوم، التي تمثل جميعها رموزًا مرتبطة بموضوع الفقد، لكنها تُعرض هنا كجزء من الحياة اليومية العادية. استخدام صورة الشجرة كمجاز للذاكرة يعطي فكرة أن الصور تحمل داخلها مرور الزمن، وأن تعليق الصور على "الشجرة" يشير إلى محاولة ترتيب هذه الذكريات. الجملة، رغم بساطتها، تُبرز علاقة مستمرة بين الماضي والحاضر، حيث تُعيد الذاكرة ترتيب الذاكرة بطريقة تؤثر على الحاضر.

تشكل الجملة "مهند خسر كل صحابه وأنا صرت أخاف أضل لحالي" نقطة تحول في السرد، إذ ينتقل التركيز من تجربة مهند إلى مشاعر أخته الطفلة. تعبر الجملة بوضوح عن الخوف الشخصي الذي تشعر به، مما يبرز التأثير العميق والمباشر للحدث عليها. لم تكن الصدمة مقتصرة على مهند فقط، بل تأثرت بها أخته، مما خلق حالة مستمرة من التوتر، وشعورًا بالوحدة والخوف من البقاء وحيدة. بهذا التعبير، تظهر الجملة كيف تتشارك الأسرة في مواجهة الصدمة، وتتيح رؤية أعمق للجانب النفسي الداخلي للشخصيات.

بين الشوق والصدمة

يتحول الشوق إلى حالة دائمة لا يكتفى فيها باللقاء الحقيقي؛ تقول رشا "بلشت أحس شو معنى تشتاق لحدا ما تقدر ترجع تشوفه"، معبرة عن وعيها المتزايد بمعنى الفقد والاشتياق. رغما عن ذلك تقنع رشا برواية احد اطفال الحي "الشجرة الكبيرة اللي غاد، اللي بقعد عليها وبغمّض عينيه بشوف مين بده". هنا تصبح الشجرة رمزًا لاستدعاء الغائبين، مما يعكس ارتباطها بالخيال. رغم نية الطفل الخداع لأخذ صورة مسيئة، تفتح هذه العبارة أمام رشا نافذة أمل وفضول للتواصل مع ما فقدته، خاصة والدتها، وتعمل كحافز لتجاوز ترددها وركوب المرجيحة. في هذه اللحظة، رشا اغمضت عينيها ورأت أمها تلتقط صورة لها، فلم تدرك حقيقة الاساءة التي حصلت للتو ولا تدري أن ما مرت به مشابه لمصير والدتها من قبلها. وقعت رشا في مصيدة الاساءة فقط لكونها فتاة بريئة، متشوقة لرؤية ما حرمت منه بغير ارادتها. مهند لا يلقي اللوم على اخته ولا يحاول الانتقام منها بعدما تمت الاساءة لها، بل يحاول في البداية الدفاع عنها واسترجاع ما قد سلب دون إذنها. 

تعود رشا في ذاكرتها إلى رحلتهم الأولى "كاميرتنا اللي كسرها أبوي لما تغاوشوا هو وأمي سوا، صارت شقف صغيرة كثير ما قدرنا نصلحها" هذه الجملة تصوّر بداية تشظي الذكريات، فلم يتبقى لرشا إلا ما ترويه من مخيلتها. تحطم الكاميرا يشير إلى تفكك العلاقة بين الوالدين وتحولها من حالة من الاستقرار إلى صراع عنيف. الشظايا الصغيرة التي لم تعد قابلة للإصلاح وترمز إلى الانكسار العميق لخسارة الثقة بين أفراد العائلة. يظهر هذا المشهد تجربة الطفلة في مواجهة الغياب عبر الخيال والشوق، مما يساعد على فهم أعمق لتطور مشاعرها وتفاعلها مع فقدان والدتها في سياق الفيلم.

شعور الطفلة بالخوف والتهديد يصل ذروته في قول رشا "الهوا صار قوي كثير، حسيت إنو هاللحظة راح تيجي، ما حدا بيقدر يساعدنا". الريح القوية هنا ليست مجرد حالة جوية، بل رمز لقوة الخطر الداهم والضغوط التي تحيط بالعائلة أو الطفل. إحساس الطفلة بأن "هاللحظة راح تيجي" يشير إلى توقع وقوع حدث مؤلم أو كارثة، ويعبّر عن شعور بالعجز التام والافتقار للدعم والمساعدة من أي جهة، وشعور بالانفراد في مواجهة الموقف الصعب.

الطرق البعيدة تودينا لمحلات جديدة

"إحنا منختار من أي طريق نرجع ع بيوتنا، الطرق البعيدة تودينا لمحلات جديدة، بتفتح عيونا على عالم ثاني، مهما الطريق بتكون صعبة، في غيمة بالسما، وفيي وسيع، وفي ريحة قمح جاي" هذا القول يأتي بصوت الطفلة، ويحمل تأملًا في فكرة الضياع والبحث عن طريق. الطفلة تعبّر عن شعورها بعدم القدرة على العودة إلى البيت – سواء بمعناه الحرفي أو الرمزي – لكنها في الوقت نفسه تشير إلى أن الطرق "البعيدة" تفتح عوالم جديدة، وتدعو إلى رؤية مختلفة رغم الصعوبة. الصور الحسية مثل "الغيمة"، "الوسيع"، و"ريحة القمح" تمنح شعورًا بالهدوء والاحتماء. الكلمات تميل نحو الحلم أكثر مما هي وصف مباشر للواقع، ما يعكس وعيًا داخليًا متناميًا لدى الطفلة، وتحوّلًا في طريقة رؤيتها للعالم. في اللحظة ذاتها، يتراجع أحد الأطفال عن رمي حجر كان يستعد لقذفه. هذا الفعل بسيط في الظاهر، لكنه محمّل بدلالة قوية؛ فالطفل يتوقف عن المشاركة في فعل عدواني، ربما كان نتيجة ضغط جماعي أو شعور بالانفعال، ويختار الانسحاب. التراجع هنا لا يصاحبه كلام، لكنه يعبّر عن رفض صامت للعنف، عن لحظة وعي أو ندم أو حتى خشية. التزامن بين قول الطفلة وفعل الطفل يمنح المشهد بعدًا رمزيًا عميقًا. الكلمات التي تقولها الطفلة، والتي تعبّر عن رغبة داخلية بالخروج من دائرة الألم والانغلاق، تتقاطع مع الفعل العملي للطفل الذي يختار ألا يؤذي، وكأنه يستجيب بشكل غير مباشر لهذا الأفق المفتوح الذي تشير إليه الطفلة. هنا، يتحول القول والفعل إلى لحظة مشتركة من التوقف، من التفكير، ومن اتخاذ مسافة من العنف. تزامنها يؤكد على إمكان نشوء وعي بديل داخل بيئة مشبعة بالتوتر، ويمنح للمشهد قوة إنسانية صامتة تقول إن هناك دائمًا إمكانية للانفصال عن العنف، واختيار طريق آخر، حتى لو كان ذلك عبر لفتة صغيرة أو جملة عابرة.

يستخدم شادي في فيلمه القصير العديد من الرمزيات يصحبها بمشاهد تغذي الدلالات التابعة لها، ففي مونولوج رشا الداخلي تتكرر الإشارة إلى الطبيعة والمخرج من جهته يرسم صورة لبعد متخيل لا يتم الحديث عنه بشكل مباشر. في أحد المشاهد عندما تسلك رشا طريقها نحو الشجرة، تلامس اصابع يديها على القمح الاصفر العالي، تتبع الفتاة خطى الاولاد وبعدهم اخيها. لون العشب الأصفر يكاد ينذر بالشؤم من شدة شحوبه، في حين تتجه رشا كأنثى وحيدة متجهة الى قدر مجهول. بالمقابل نهاية الفيلم تشدد على قول رشا بأنها تشعر بالامان مع اخيها، وان الحياة تتغير كما تغير الطبيعة من لونها، فهي تسلك طريقا آخر، لوحدها هذه المرة، وتلامس يدها القمح الأخضر الكثيف. يعرض الفيلم مسألة الجريمة في المجتمع ويبدأ بتحليل تداعياتها على مشاعر الأطفال ومكانتهم بين أبناء جيلهم. في مقابلة مع المخرج أشار الى أهمية تشريح الفئات المجتمعية والتساؤل عنها، وقدرة الأفلام على التأثير على المجتمع وبدأ التغيير فيه. 

(تمت كتابة المقال ضمن ورشة كتابة مقال النقد السينمائي)

جميع الحقوق محفوظة © 2024