(الصورة من الفيلم)
قبل أن تطأ كلمات يعتبة الفيلم وتتعاطى معه كعمل فني، سبقتها مشاعري وتعاطت مع الفيلم كانعكاس لحالة شخصية، حالة المعاملة اليومية مع الأهل حينما يكبرون في السن ويصبح اعتمادهم علينا أكبر من اعتمادنا عليهم حينما كنا أطفالًا.
ان الشعور الذيي يخلقه هذا الفيلم ليس سهلًا، والاصعب هو التصريح بشعور الاختناق والعجز والتعاطف حد البكاء. تحوّل حزن فرح قاسم على والدها يوم وفاته إلى حزن جماعي، حزن كل هؤلاء اللذين يعدّون الآن حبوب الدواء، أو يقرؤون خرائط أفرزتها فحوصات طبية معقدة، أو يجلسون على مقربة من كعب قدم جفّ ليدلكوه بما تيسّر من زيت الزيتون.
"نحن في الداخل" تسجيلي طويل للمخرجة اللبنانية فرح قاسم، هو فيلم يجعلنا نعيش في بيت فرح ووالدها على مدار 180 دقيقة تغمرها الكثير من المشاعر. بفضل أسلوب التصوير وموقع الكاميرا نحن في حالة تلصص على تلك الشخصيات، نعيش معهم في البيت وملتقى الشعر والشارع لكننا غير مرئيين، وجودنا لا يشغل بالهم ولا يغيّر شيئا في صراحة الحوارات. هذه الواقعية العالية تجعل الفيلم ممتعًا رغم طوله غير المعتاد.
مصطفى قاسم شاعر لا يزال يعيش جاريًا وراء الكلمة الحلوة - كما يقول، يكتب الشعر ويلقيه، يجالس الشعراء من أبناء جيله ضمن منتدى خاص، ويتساءل حول غاية الشعر وتقلبات الحياة وتأثيرها على هذا النوع الإبداعي من الكتابة. تحاول ابنته العائدة الى طرابلس لتكون إلى جانبه في سنوات عمره الأخيرة، أن تدخل عالمه لتفهم سر العلاقة بينه وبين الشعر، ومن هناك تكون رحلتها متشعبة المسارات، فهي تحاول أن تصبح جزءًا من مجتمع الشعراء لكنها في حقيقة الأمر تحاول أن تستعيد مع والدها حياة المدينة الاجتماعية والسياسية لفهم حاضرها.
لا مؤثرات ولا موسيقى تصويرية تصاحب جلسات الشعراء كبار السن، لا فلاتر تجمّل تصرفات الطبيب حين يستقبل مصطفى المريض ويهنؤه على التزامه، لا مجاملات حين يحكم مصطفى على قصيدة تكتبها ابنته ولا تستفز اعجابه، كل شيء هنا واقعي ومتأني لا يركض نحو نهاية ما. وحتى عندما تحين النهاية فهي تحضر بكل روية وهدوء وأناقة، ليغادر مصطفى قاسم العالم وشاشة الفيلم كبيت شعر خفيف على قلب.
أنا وأبي
هذا الفيلم هو قصة علاقة بين أب وابنته، هي مخرجة تعود إلى مسقط رأسها بعد سنوات من الغربة، وهو مثقف وشاعر لا يزال متمسكًا بتقاليد الحياة بعيدًا عن الصرعات الثقافية والاجتماعية. في هذه العلاقة يمضي بعض الوقت في لعب الورق، وبعضه في مطالعة الشعر، وبعضه الآخر في التذكار. يستعيد مصطفى التحوّل الذي طرأ على مدينته طرابلس في الأعوام 61 و 62 حينما مالت المدينة نحو المحافظة وأغلق الكباريهات فيها، قبل ذلك يستذكر مصطفى الأفلام التي شاهدها في دار السينما عام 52 وتناوله الفلافل بعد كل الفيلم، ليكون هذا الربط بين الطعم والمشهد عالقًا في ذهنه، يقول ذلك ليس استعادة لتاريخ غاب عن مدينته، إنما لاستعادة المعالم التي تكوّن الذكريات الشخصية.
"الشعر التقليدي كله ما عاد إله محل" هكذا يصف الشعر وهو مجاز لأبناء جيله الذين لم يعد لهم مكان وسط التغييرات الاجتماعية، في هذا صراع بين أجيال لا يزال أحدهما متمسكًا بالشعر ويسائل حول غايته، هو الشعر لسان حال المجتمع؟ هل الشعر معزول عن المجتمع؟ هل غايته الجمال؟ وهي أسئلة تصلح لنقاش حول غاية السينما، وهي نقطة التماس بين الأب والابنه، بين مجالين من الإبداع، يتفقان ويخلفان لكنها يلتقيان في العمق، في حضرة المعنى.
"خليني أوصل نهايتي زي ما أنا، ما تجربي تغيريني" يقول مصطفى لابنته، وهو جزء من عملية التأقلم بينهما، هي تحاول الحفاظ عليه ومرافقته بالكثير من الألفة والرحمة إلى نهايته، وهو يصحو فجأة ليأخذ دوره في الحماية حين يدخل رجل آخر المشهد. ففي لقطة ظريفة تنطلق شرارة خلاف بين الابنة وسائق آخر وسط الشارع، يصرخ الأب طالبا من ابنته الابتعاد، وحين تجادله يقول "بقعد جنبك جبان؟" لا يمكن لهذا الأب ألا يمارس أبوته، ولوعيه التام بعدم قدرته على ممارستها كاملة يطلب الانسحاب.
هذا الانسحاب ليس من معركة الشارع فحسب، بل هو من معركة الحياة سريعة التقلب، انسحاب من الوضع السياسي، من ثورة الناس في الشارع، من مقر الشرطة الجاثم مقابل الشباك، انسحاب بطيء من الحياة مع نص قصيدة "النهر البارد" لميخائيل نعيمة.
هذا الفيلم يتمتع بجمالية شعرية، بثني كقصيدة رثاء لجمل لم يعد موجودًا، رثاء لجيل لم يعد موجودًا. في تفاصيل الصورة والمواربة في نقلها، وفي تفاصيل النقاشات والكلمات المختارة، وفي محاولة كتابة الشعر حنين لكيان لم يعد موجودًا، لهوية مدينة لم تعد موجودة. حين يجتمع كبار السن من الشعراء ليتبادلوا بعض الكتابات ويناقشوها محاولة للبقاء، مقابل القلق من مصير البلاد وحالة الاقتتال هناك حالة طمأنينة يولّدها الالتفاف حول الجمال واللغة، طمأنينة تعزل أصحابها عن الواقع وتكون مهربًا لهم.
كل هذا يحدث في الداخل، داخل البيت، داخل السيارة، داخل المنتدى، داخل العيادة، داخل القلوب والأذهان. أما في الخارج فهناك اغتراب وحواجز زجاجية ومشاعر متجمدة. فدعينا نبقى في الداخل!