(الصورة من الفيلم)
كل شيء ممكن في الاتساع المنتهي برفح المبتدئ ببيت لاهيا، قد تختارك جثة وتلازمك لتختبر صبرك، قد تلازم أنت جثة لأن القدر شاء، فلا أحد يختار ملازمة جثث محبيه إلا مُكرهًا، لا أحد يختار رؤية حبيب يبهت ويصفرّ ويذبل، وقد يقودك الألم والظلم والفقدان إلى الهذيان حيث يموت المنطق ويعيش الحب الفطري أبدًا.
يأخذنا وسيم خير في فيلمه " Gaza Bride 17" إلى رحلة الهذيان والخيال والانشقاق عن الواقع والتشبّث بالحب. في تقلبات المشاهد والأحداث تجسيد لشعر سميح القاسم حين يقول بكل ما أوتي من سرعة وغضب:
من شارعٍ لشارعٍ
من منزلٍ لمنزلٍ
من جثةٍ لجثةٍ
تقدموا
ينقلنا من صورة غزة بأهلها عامرة، من شوارعها وبيوتها نجري بعيوننا مراقبين رجلَا يلهث في حواريها راكضًا نحو البحر اللانهائي حيث يُجالس الناس الموج، هناك نسمع وإياه صوتًا ينادي بالعبرية "عد إلى الوراء". فتعود بنا المشاهد إلى الوراء لنجمع ما تيسّر من خيوط يشبكها خير بقوة ليصعّب علينا فك لغز زرعه في حقل من ألغام المشاهد المعقدة.
في نهاية المطاف هي حكاية رجل غزيّ خرج إلى البحر ليصطاد قوته، يصاحبه فتى صغير يدعى ورد. قد يكونا أبًا وأبنه، قد يكونا أخًا وأخاه الأصغر، هذه تفاصيل لا تهمنا حقًا، لأن المرارة ليست في البحث بين شظايا الأرحام، بل في قتل طفل على يد جنود البحرية وهم يطالبون القارب بالتراجع نحو الشاطئ، مرارة الموت قبل أن تتحقق آخر الأمنيات "بدي ميّ". تلقف الأمواج وردًا، وتكون مهمة إعادته إلى الحياة مستحيلة. وهنا تبدأ رحلة صيد أخرى، صيد اللحظات الجميلة الأخيرة.
على حافة الجنون يقف رجل واحد تجول في ذاكرته أصوات الخطر "عد الى الوراء"، جاء مسرعًا من بيته ليصل شاطئًا يبدو عاديًا، 7 أشخاص موزعين في الفراغ الرملي كأي شاطئ عاديّ، يركض نحو الماء لكنهم لا يلتفتون إليه، يسمع أصوات الأعماق التي تعلو وتعلو، يصارعها ويخرج منها سالمًا واقفًا بثبات على رمل الشاطئ، تتراقص أمامه سترة نجاه برتقالية اللون، يطمئن قلبه، لكنه يبحث يعينيّه عن شيء ما حتى يشعر بيد تقبض على رجله، فيستدير ليرى جميع رواد البحر أمواتًا، 8 جثث لمن كانوا يرتادون البحر قبل قليل وازدادوا جثة.
باقترابه من الجسد الممسك برجله استعادة لملامسة جثة ورد قبل أن يجف دمها، وهذا كفيل بجعله يستميت لإنقاذ ما تبقى من أنفاسها. يحمل جسد المرأة عابرًا الرمل نحو ما يبدو له كخلاص.. أعالي الجبل.
لا تتمتع غزة بأية جبال صخرية أو مرتفعات تذكر، لكن في خيال هذا الرجل المكلوم ما يكفي لاختراع المساحات التي تبدو له اكتر أمنًا. لم يرَ النجاة في الجبال؟ هل هي أقرب إلى الله الرحيم؟ هل يود أن يمضي نحو السماء ليقصّر على الميت طريقه؟ أم يريدها فرصة للاقتراب ممن يسكنون الأعالي؟
رغم المشي طويلًا بين صخور وأشجار وعتمة نرى الزرقة تلاحقه، مرّة كماء ومرّة كسماء. وهو يجتهد ليختبئ من شيء ما، يتابع الهرب. في لحظات تحرر الوعي من محبسه تعود أصوات الأعماق والأمواج، فيستفيق جسد المرأة ويراقصه، لكن هذه اللحظات لا تدوم طويلًا لأن المرأة العائدة إلى الحياة تطلب الماء، فتعيد الوعي إلى مكانه الطبيعي ليسرد لنا قصة طفل اغتاله المحتل وسقط جسده في الماء دون أن يشرب حاجته من الماء.
في تلك اللحظات التي يصارع فيها الطفل موتان، الموت بالنار والموت غرقًا يكون صوت الطفو وصوت الغرق مصاحبان لتفاصيل المشهد، وكلما تكررا استوعبنا أننا نعيش داخل مساحة محاصرة من ذاكرة رجل يحمل جثة كمجاز للحمل الثقيل على كاهل من خرج يصاحب طفلًا وعاد دونه.
في رحلة الحمل الثقيل تتراءى له سيارة فيها جنديان غريبا الشكل، يركض نحوهما فيدوس لغمًا، يطلب المساعدة من غريبين مسلحيّن، يشرح بأن المرأة لا تزال على قيد وتحتاج الماء، وهو واقف على لغم، أن كل احتكاك بين الشرود والواقع هو وقوف على لغم.
من لا يحتمل الرمزية والتعقيد لا يمكنه التمتع بمشاهدة هذا الفيلم، يغرق المشاهد في أفكار البطل، نغوص حتى نكاد نختنق ولا يمكننا النجاة إلا حين يعود بنا إلى الشاطئ، وقد يطول هذا الغوص فينفذ صبرنا. ان كل تفصيل في كل مشهد يفضي إلى عالم واسع من التأويلات، ففي الركض هروب ومواجهة، وفي الماء موت وحياة، وفي الورد رقة وشوك، وفي الشرود تمسكُ بالواقع. ان التناقضات والانقلابات السريعة والضجيج وأصوات الصواري والنوارس كلها تشبّث بالحياة، ووتيرتها التي لا تتوقف.
في جسدنا المصاب كثيرون فقدوا أحبتهم، منهم من غادر الواقع ليعيش في عالمه الخاص حيث يتواصل مع من يحب. نحن لا نرى الواقفين على طرفي الحب، لا أحياء ولا أموات.
كُتب هذا السيناريو خلال حصار غزة وقبل حرب إبادتها بسنوات، لكنه في النهاية يصف حالها اليوم وحالنا جميعًا، "أنا داعس على قنبلة" - ألا نشعر بذلك؟ قنبلة العجز! لقد وصل بطلنا إلى الشاطئ ليوزع الأدوار على الناس، بات يراهم جميعًا موتى على مسرح حياته التي فقدت أفضل نجومها. توقف الكثير من الغزيين عن رؤيتنا، لم يعد لدينا أدوار بطولة.
يمنح الناس في مدن البحر أسماءً للمراكب.