في العام 1987 حصل الفيلم الدانماركي "عيد بابيت Babette's Feast " على جائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، وهو فيلم دراما ناطق بالدنماركية والفرنسية والسويدية، سيناريو واخراج غابرييل أكسيل، مقتبس عن رواية تحمل الأسم نفسه من العام 1958 تأليف كارين بليكسن؛ بطولة ستيفاني أودران (بابيت).
وسط أجواء رمادية، وصوت الراوي الذي يوقظ في ذاكرتنا أصوات الرواة من الأفلام الوثائقية القديمة المثقلة بالتاريخ الغابر أو الهموم، يعلو شعور بالالتزام الخانق وتقشف تُصاحبه رائحة سمك مجفف وبعض الشوربة التي لا نشتهي. ننطلق مع الأخوات "فيليبا" و"مارتين" اللتان تجودان على كبار السن في محيط سكنهما ببعض المأكولات التي لا تتمتع بالشكل واللون الذي يمكن أن يدغدغ خلايانا الجائعة.
في قرية "جوتلاند" الدنماركية الصغيرة شبه النائية نعود بالزمن الى القرن التاسع عشر حيث عاش أحد القساوسة وابنتيه الجميلتين "فيليبا" و"مارتين"، قسى عليهما الوالد فلم يأذن لهما بالزواج رغم تهافت الخطّاب، كان أبرزهم الضابط السويدي "لوينهيلم" ومغني الأوبرا الفرنسي "بابين"؛ فذبُل الجمال وما صاحَبَهُ من حُسن الخُلق واللُطف وتحولا الى قُدّاس عطاء يومي محاصر بالطناجر المعدنية وخيوطٍ من صوف. مات القسّ تاركًا لابنتيه قيادة رعيّة من المتدينين البروتستانت المُغالين في جفاف النفس والروح، المتقشفين في المأكل والملبس، قليلي العدد متضائلي الأجساد.
بعد عشرات السنوات من وفاته، تطرق الفرنسية بابيت هيرسنت باب الأختين، لاجئة من هول ما شهدت الثورة الباريسية من الدم، حاملة رسالة من مغني الأوبرا "بابين" تنصح الأختين باعتماد "بابيت" مدبرة منزل وطاهية دون مقابل سوى المأوى. مع دخول "بابيت" حيّز المطبخ تدّب الروح، ويبدأ رذاذ سحري بالانتشار فوق الوجبات الشحيحة فتزداد جودتها ويلذُ التهامها.
بالتزامن مع ذكرى 100 عام لمولد القسّ الراحل، تقترح "بابيت" اعداد وليمة على الطراز الفرنسي لمجموعة المؤمنين، ذلك بعد فوزهابمبلغ كبير في اليانصيب. تبتاع "بابيت" كميات مذهلة من المؤن اللازمة للوليمة من قلب العاصمة الفرنسية، وتحضرها الى "جوتلاند" وسط ذهول أفراد المجتمع المحلي الذين لم يشهدوا يومًا كمًا كهذا من المواد الخام الغريبة للأكل.
تختار بابيت اعداد وليمة من 7 وجبات متنوعة، يُبدع العمل السينمائي في تصوير اعدادها وطبخها وحُسن تقديمها ورُقيّه. يصل بنا الى مستوى عالٍ من الإبداع البصري المثير للشهية، فالتعاطف الذي يخلقه فينا صوت السلحفاة البحرية المتحولّة فيما بعد حساءً، يغتاله لون البخار المتناثر من الطنجرة الفخارية، ويسيل لعابنا عند استحضار رائحة متوقعة لفطائر الشوفان المخبوزة المزينة بالكافيار والكريما الحامضة حارقة الألسُن، ويُمتعنا جمع اطراف طائر السمّان المشوي المحشو بالفواغرا وفطر الكمأة الأسود الثمين.
أما الكعكة الاسفنجية الغارقة في شراب الرم فتذوب رقّة حين يلحقها التين، ويتحدى لونها الذهبي كرزٌ يوقظ لمعانه الاحمر ما فينا من جنون وشهوة تذوّق مكبوتة، ثم نصمت طويلا في حضرة طبق الاجبان والفاكهة المعززة بأصناف منتقاة من المشروبات الخمريّة التي تُحيي فينا صورة الانسان المتخيّل متكئًّا على أريكة مخملية في جنة عدن. ان اختيار بابيت تقديم مالها لإعداد وليمة بهذا الزخم الفنيّ الشهيّ بدلاً من العودة إلى موطنها، أشبه بطقسٍ مقدسٍ يقدم فيه إنسان روحه قربانًا على مذبح ربٍ عظيم الشأن.
هذا ليس مجرد فيلم يجعل الطعام محورًا له، بل هو عرض لثقافة لا تتنازل عن إرضا ءالجسد والروح معًا – الفرنسية. فإن ما تحضره "بابيت" إلى "جوتلاند" ليس مجرد وصفات تجيد إعدادها، بل حياة تجيد التمتّع بها. يبدأ هذا الفيلم قائمة طعامه الغنيّة بالسمك المجفف الذي نشتم منه رائحة ليست غاية في اللذة، لكن السمك الذي نراه فيما بعد، وكأن الحياة تدب فيه حين تلمسه يدي "بابيت" فيصبح أكثر جمالًا وشهية، هذه المرأة الذي يبدو معها شراء حبتين من البصل رحلة كولينارية، تحوّل الخضراوات واللحوم من مجرد مكونات إلى قيمة تتنافس فيها الريبة والطمأنينة، فالأخت مارتين ترى سلحفاة "بابيت" كابوسًا يؤرق إيمانها المتزمت، وتحلم بالنبيذ دمًا ينسكب فتنتفض روحها خشيةً منه.
تحتل "بابيت" ووليمتها ثلثيّ الفيلم، حيث نراقب سرد تفاصيل الإعداد الدقيقة من تقطيع العجين ونتف ريش الطيور وتذوّق النبيذ، يتبعه تصميم خاص لشكل الوجبه الذي يضفي رونقًا تلتاع معه قلوب الجياع منّا.
يبدع المخرج في عرض التناقض ما بين الأزياء السوداء للمتحلقين حول المائدة وحيوية ما عليها من كؤوس وصحون وشموع، تتحوّل موسيقى الخلفية لتضيف متعة تواكب قرقعة الأواني ورشرشة الزيت في المقلاة، ثم يرتقي كل هذا بتخصيص الإضاءة وسط الطاولة ليقودنا أكسيل حيث يجب أن يصب اهتمامنا كله.
حين تحضر المؤن الى "جوتلاند" يتسرّب من بحضن الحياة فتىً ظريف تسعد لرؤياه العين بعد انهماكها من رؤية ما يبديه كبار السن من الجفاء، وحيت تتحوّل تلك إلى وجبات يعود الحب ليزهر في الديار ، وتبدو الوجوه أكثر شبابًا، والنفوس أكثر سعادةً.
نغادر هذا الفيلم خارجين من مطبخ يعج بالأواني المتسخّة، والصحون المكدّسة، وبقايا طعام لم تبرد بعد حرارة الدهون فيه، وكأس نبيذ في يد "بابيت" يبعث الدفء في نفوسنا التي تسعد لرقيّ ما رأت.. وجاعت!