عن فيلم " under blue sun" للمخرج الإسرائيلي دانيئيل مان
في الوقت الذي يسيطر فيه اسم "رامبو" على جو الفيلم العام، لا أستطيع منع نفسي من التفكير في الواقع الحالي، الذي يعتبر فيه الفلسطيني متهمًا كيفما كان. كيف ذلك؟ ببساطة لأني أرى وجه داني بن مناحيم، خبير متفجرات او كما يسمى بالعبرية "حبلان חבלן" وأرى وجه بشير أبو ربيعة خبير مؤثرات سينمائية، والذي يمكنه صناعة قنابل خاصة للأفلام، وهو فلسطيني ابن النقب حيث توزع الحكومة الفاشية لقب "محبيل מחבל- مخرّب" بالجملة.
وبين الحبلان والمحبيل مساحات تفوق ارض النقب مشبعة بالعنصرية.. أتمنى أني نجحت في التعبير عما فكرت فيه!
عودة للفيلم...
لقد عثر مخرج فيلم "تحت شمس زرقاء" (2024) – دانيئيل مان على مقاطع فيديو وصور تجمع الممثل الأمريكي الشهير سيلفستر ستالون مع جنود إسرائيليين، التقطت الصور نهاية الثمانينات بالتزامن مع اندلاع الانتفاضة الأولى، دفعه ذلك للبحث فاتضح له ان ستالون زار البلاد لتصوير فيلمه "رامبو 3" ومكث مع الطاقم بضعة أشهر في الصحراء الفلسطينية المحتلة – أرض النقب، المصنفة بمعظمها كـ "مساحة عسكرية مغلقة".
لماذا يجدر بنا مشاهدة الفيلم؟
لانه يعكس امامنا حقيقة أن لم يأت ستالون الى النقب على حصانه مدججًا بالرشاشات لتحريره من الاحتلال، لقد أتى ليحرر الأفغان من أنفسهم! هذه كانت حكاية فيلمه "رامبو 3" - البطل الأمريكي الخارق الذي يأتي لإنقاذ العالم الثالث من شر نفسه.
في افتتاحيته يقدم الفيلم قراءة لنص غريب تقول صاحبة الصوت فيه: " أمن وخوف، حق وباطل، الى هناك سأعود سيخرج كل من بيته عائدا الى بيته، أتمنى العودة الى حيث لم اعد انتمي".
عاد بشير أبو ربيعة الخبير في مجال المؤثرات منذ عشرات السنين الى موقع تصوير الفيلم الأمريكي بعد غياب 37 سنة. لقد تم أطلاق اسم "طريق رامبو" على أحد مسارات المشي في المنطقة، ونرى في الفيلم- كما في الواقع- مرشدًا سياحيًا يترك التاريخ الحقيقي جانبًا ويأخذ من التاريخ المصنّع جزءًا لا أهمية له: لقد تم تصوير فيلم رامبو هنا!
لم يكن الفيلم ولا المؤثرات ولا رامبو ولا ستالون ما شغل بال بشير، بل أصل الحكاية، وتغييب أصحاب الأرض، واحتلال النقب وتهجير أهله من عشيرة الجهالين وغيرها من عشائر النقب. أظهر بشير خلال تجواله وحديثه وكشفه عن بقايا بيوت عربية كيف لا يبدي أحد أي اهتمام بمكان التصوير وقصته، وكيف تقوم الطواقم بفرض هوية جديدة للمكان لتخدم فيلمها، فتبنى بيوت أفغانية على ارض النقب، وكيف يخلقون وهما بان كل شيء على ما يرام، كما تخلق الفلاتر الزرقاء وهمًا بأن الحديث عن جبال أفغانستان.
يا الله ما هذه المفارقات؟ كيف يجتمع المحتل الأمريكي والإسرائيلي ويعبثان بهويات الأماكن!
يثير الفيلم موضوعًا جديرًا بالبحث، وهو مدى مساعدة الجيش الإسرائيلي للفيلم سواء بإصدار التصاريح للتصوير، وارسال خبير متفجرات ليركب قنابل للفيلم (ويدفع ثمنًا لذلك 3 من أصابعه)، وكيف يقدّم الجيش موادًا وقوى بشرية ويسخّر طائراته لتحلق في سماء النقب بطريقة تخدم الفيلم! كيف يصدر الناطق بلسان الجيش أوامر مساعدة. ان كل الدعم الذي يقدمه الجيش للفيلم يجعل التطبيع معه أكثر سلاسة، فها هو الجيش الإسرائيلي ليّن ولطيف ومتعاون، ها هو يقدم خدمات "سينمائية" مجانية او مدفوعة الثمن- لماذا تتهمونه بقتل الأطفال؟! ان اجتذاب شركات الإنتاج السينمائي للتصوير في الأرض المحتلة ليس استثنائيا ولا حكر على فيلم كهذا او ذاك، لقد كان هذا جزء من تسويق الدولة الجديدة.
في مقارنة بين الحرب الدائرة في فلسطين والحرب الدائرة في الفيلم لا يمكن غض النظر عن دور أمريكا في الحرب، لقد أحسن دانيئيل مان استحضار مقاطع من الفيلم واسقاطها على الواقع الفلسطيني.
نكبات النقب
يرسم بشير أبو ربيعة مسارا للفيلم، من الشخصي الى الجمعي، من بشير القلق على مصيره الى بشير المتشبث بحكاية طرد عشيرة الجهالين باستخدام الرصاص وحرق الخيام- تمامًا كما يفعل رامبو في الفيلم، يرمي بالرصاص ويقتل ويحرق- يتمسك بشير بالـ 90 الف انسان عاشوا على ارض النقب قبل طردهم والسيطرة السريعة على ارضهم من خلال الإعلان عنها كمساحة عسكرية مغلقة، يتمسك بشير بسلاح الكاميرا رغم انه ضليع بتركيب المتفجرات، يتمسك بحكاية يريد ان يرويها سينمائيًا عن المرأة "السينائية" التي هُجّر أهلها من النقب واخترقت جسدي السينائية ووالدتها رصاصة.
لا يزال جسد السينائية في العام 2024 محتفظًا بالرصاصة دليلا على النكبة.
في مخزن بشير الذي يعج بالأغراض تتناثر قطع أجساد وكأنها آتية من قطاع غزة، يتجول بشير بينها مثقلا بهمّ ما، يعرض صورًا لمكان التصوير والمؤثرات وهو فخور انه صورها دون تلقي الاذن لذلك، كان يهمه التوثيق، لانه يؤمن بأن الأثر لن يزول مهما حاول الاحتلال، ويردد على مسامع المخرج مثلًا عربيًا يقول " الي بكرهك بكره اثرك ع الطريق".
ان العمل في عدد كبير من الأفلام لم يجعل بشير يعيش "في فيلم" بل بقي واقعيا الى اقصى الحدود، متمسكا بالبطل البدوي "هبوب الريح" – عيد الصانع الذي حارب سارقي أراضي النقب مفضلا إياه على رامبو البطل الورقي رغم كل ما يعرضه من عضلات.
رامبو لا يمكنه تحرير النقب من مخطط برافر، والحصان الذي يمتطيه أخ لحصان يمتطيه شرطي إسرائيلي قامع للتظاهرات.
عن الصورة والأثر
يرى بشير في التصوير أثرًا هامًا، فالصورة تتحدث باسم صاحبها الذي كان هناك، هي جزء من حقيقة كبيرة والكاميرا سلاح الباحثين عن الحقيقة.
يعكس الفيلم جانبا من جوانب النفاق العالمي، فالصناعة الفنية ترسل مستعمرًا ابيضًا الى ارض ترغب بالتحرير، نفاق جلوس ستالون امام الكاميرا من قلب النقب المحتل متحدثًا عن الشعب الافغاني الحر، انها فكرة الحق والباطل مجددًا، تلك التي يتضح لنا انها سطر في خاطرة كتبتها ابنة بشير.
يتحدى بشير في تجواله كل أحاديث الإسرائيليين للإسرائيليين، فالشجرة التي ظللت خيمة عائلة الصانع لا تزال صامدة، وهي أثر باقٍ لمن سكنوا جوارها فيما تحاول احتلال المكان أشجار صنوبر غريبة وطّنتها "كاكال קק"ל" عنوة لتحقق مقولة "إحياء القفار". لقد تطورت لدى الشجرات في النقب جذور وقشرة متينة تمتص مصاعب الحياة، وهكذا هم اهل المكان - الأصلانيون.
***
بالآخر...
يفتتح الفيلم بقراء نص "التوق للعودة" ويخلق شعورا متضاربا حول موقف المخرج من فكرة العودة.. وحق العودة!