بُرتقالة من يافا في يوم فلسطيني عادي
غدير محاجنة

غدير محاجنة

 

يأخُذنا فيلم برتُقالة من يافا للمُخرج الفلسطيني محمد المُغني إلى عُمق الحياة اليومية في فلسطين بدقّة تفاصيلها، حيث الواقع المتخم بالفجاجة، ويُقدم تجربة سينمائية تُبرز التداخل بين السياق السياسي والنفسي والاجتماعي، اذ يرسم صورة عميقة للإنسان الفلسطيني في ظل بيئة قهرية بعيدًا عن قولبته ضمن ثُنائية البطل والضحية، فالفيلم لا يستفز مشاعر الشَفَقة ولا الانبهار كما تفعل أفلام فلسطينية أخرى، بل يَستفز قُدرتنا على التَفكيك والفَهِم واعادة النَظَر. على الرغم من أنه يبدو حاملًا لسردية سياسية واضحة، تتجلى فيها مُعظم المواد البصرية التي تُشير نحو هذه السردية، كالحاجز والجُندي المُدجج بالسلاح، إلا أنه يَحملُ بُعدًا اَخر نرى فيه سردية اجتماعية نفسية أعمق من سابقتها، فما يَرمي اليه الفيلم ليس تسليط الضوء على مُعاناة الفلسطينيين عند الحواجز العسكرية وحسب، بل تجليات هذا الحاجز على المستوى النفسي الشعوري واللاشعوري، وعلى ما يتمخض عنه من ديناميكيات العلاقات التي تتشكل بين الفلسطينيين الذين يلتقون هُناك.

يبدأ الفيلم بمشاهد عشوائية من حاجز قلنديا، وللمُفارقة يكون اختيار هذه العشوائية دقيق جِدًا لتوصيف المكان وايقاعه وما يَنقلُه للمُشاهد من حالةٍ مزاجية، ومن يَعرفُ حاجز قلنديا يعرفُ تمامًا ما تعنيه العشوائية. وسط طوابير الناس والضجيج نَسمع صوت جُندي يقول بلغة عربية مُكَسرة " شباب صغار ارجعوا ورا خلوا الكبار بالسن يعرفوا يفوتوا " وهو بهذا يُمارس انسانيته في مكانٍ يُنافي الطَبيعة، وتكون هذه إشارة للمُشاهد ليبدأ بتأسيس فهمه لجدلية الفيلم، فإننا نرى فيما بعد جُنودًا يتصرفون وكأن الحاجز شيء طبيعي، يتبادلون الأحاديث التافهة، يتناولون النقارش، ويلتقطون الصور ويبحثون عن كريم واقي من الشمس، كما لو كانوا في نزهة. هذا التباين بين سلوكهم الترفيهي وبين ممارساتهم ضمن وظيفة الحاجز القهرية يُعمّق من شعور المُشاهد بالعبثية واللامعقولية التي تحكم المشهد.

مُحاولات عُبور

نَرى الشخصية المركزية للفيلم وهو يبحث عن شخصٍ ينقله من حاجز قلنديا إلى حاجز حِزمة، وفي الحقيقة لا يَبدو لنا شخصية مركزية بل شخص يتجول ضمن مجموعة هُلامية من الناس، فعند الحاجز كُلنا نبدو عابري سَبيل، بلا أسماء ولا قِصة، ينتزع الحاجز مِنا كينونتنا الإنسانية ونتحول إلى محض مُحاولاتٍ من العُبور، يعكس الفيلم هذا الإحساس بمهارة، سيما أننا لا نعرف أسماء شخصيات الفيلم إلا عندما يُناديهم الجُندي فنتعرف حينها على " محمد" الشاب الذي يُحاول أن يجد طريقة توصله إلى يافا لملاقاة أمه،  وفاروق سائق سيارة الأجرة الذي وافق -على مضض- أن يأخذ محمد معه في طَريقه إلى القُدس لتلبية نداء طَلب زبون مهم هناك، وتبدأ هذه العلاقة المُرَكبَة بالتَشكُل بين الرجليّن الفلسطينييّن.

استبطان القَهر

ناقش فرانز فانون مفهوم استدخال القهر (Internalization of Oppression) وتأثير الاستعمار على الهوية النفسية. يظهر هذا بوضوح في الفيلم، بتسرب لغة الحاجز إلى الوعي الجمعي، إذ يتماهى الفلسطيني مع أدوات قهره بشكل لاشعوري، مُعيدًا إنتاج السلطة القامعة داخل سياقاته الاجتماعية. تبرز هذه الديناميكية بشكل واضح في الحوار بين محمد وسائقي سيارات الأجرة، فعندما يَطلُب محمد من بعضهم ان يَقلوه من حاجز قلنديا إلى حاجز حزمة، يسألونه " معك هوية" وهم هُنا يتحدثون هنا بلسان الجُندي الإسرائيلي الذي يحاصر حرية الحركة من خلال بطاقة هوية معينة، هذا ما يُسميه فانون ب بـ "العُصاب الاستعماري" اذ يُعيد المستعمَر، بفعل عملية طويلة من القهر والإخضاع، تبنّي القيم والمعايير التي يفرضها المستعمِر.

إزاحة الغضب

يُظهر فاروق تَبرمه تجاه محمد وينظر إليه كلعنة حَلَت عليه وتسببت في تأخيره، وفي الحقيقة هذا التَبرُم ليس ناتجًا عن كره شخصي لمحمد، وإنما نتيجة للشعور بالعجز أمام القهر الأكبر، أي الحاجز العسكري. تتكرر هذه الديناميكية في الحوارات والإيماءات بين الفلسطينيين، عندما يتخذ أحدهم دور "القوي" في مواجهة الآخر ليُفرغ إحباطه وعجزه، يتناول غالتونغ في هذا الصدد موضوع العنف البنيوي الذي يتجلى في غياب العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية. في الفيلم، ليس الحاجز رمزًا للعنف المباشر فقط، بل للعنف البنيوي الذي يحرم الفلسطينيين من حرية التنقل أيضًا، وينتج ديناميكيات اجتماعية تتسم بالتوتر والعداء المتبادل، تمثلت في العلاقة بين فاروق ومحمد وهُنا يتجلى مفهوم الإزاحة( (Displacement في شخصية فاروق بوضوح. يعتبر مصطفى حجازي، هذا النمط أحد أشكال التعامل النفسي في بيئات القهر، حيث لا يستطيع الإنسان مواجهة القامع بسبب القوة التي يُمثلها، فيُسقط هذا الغضب على أفراد من بيئته يشبهونه في القهر والمعاناة.

نهاية سعيدة!

في نهاية الفيلم، يُقرر الجُندي ترك محمد وفاروق لأنه على ما يبدو لديه التزام عائلي بمُناسبة حلول يوم السبت، وهنا تظهر مُفارقة أقدارنا المتعلقة بمزاج الجُندي وروتينه اليومي. يعود محمد وفاروق إلى المكان الذي أتوا منه مُتقاسمين برتقالة من يافا على حد قول فاروق، ولكننا لا نعلم إذا كانت هذه استعارة ذكية أو حقيقة بسيطة، وفي كُل الأحوال يحمل مشهد النهاية ملامح الانفراج بعد الكثير من التوتر والقلق، وينعكس هذا على العلاقة بين فاروق ومحمد وتبادل الضحكات.

 

·       الكاتبة باحثة في مجال علم النفس المجتمعيّ، خريجة جامعة بير زيت، وصاحبة مدونة "سين".

 

جميع الحقوق محفوظة © 2024