إسترداد مؤجل للحرية
سماح بصول

الآن، بينما تقرؤون هذا النص عن فيلم "استرداد مؤجل"، لا يزال عبد الله معطان، مخرج الفيلم معتقل إداريًا، وفيما يجرّب عبد الله ظلام السجن، يرى عدد من الأسرى نور الشمس والحرية من خلال صفقة التبادل.

ان حالة التناقضات هذه تختزل فصلًا طويلًا جدًا من حياة الإنسان الفلسطيني، الذي تجتمع في حكايته تناقضات قاسية، لكنه يواصل التشبث بالأمل.

وان لم تكن ثنائيه الأسر والتحرر كافية، فلنضف اليها موضوع الفيلم الذي يتحدث عن جثامين الأسرى المحتجزة في الثلاجات الاسرائيلية، حيث تمكث هناك أسيرة، تتنظر صفقة او اتفاقًا او اي انفراجة تعيدها الى ثرى كوبر او نابلس او بيت لحم أو جنين حيث ولدت.

في هذا الفيلم الوثائقي القصير (11 دقيقة انتاج مؤسسة قامات) تلتقي العدسة امهات اثنين من الأسرى المحتجزة جثامينهم، تطالع الامهات صورًا تجمدت فيهة لحظات ضحك وعناق واحتفال وفرح وبقيت الوحيدة التي تسري فيها دماء الشهيد، فقد تجمّد الدم في صور اليوم ولا يزال ينتظر كما الأم ان تدفئه حرارة التراب الابدي.

يتميّز فيلم عبد الله معطان بذكاء التشبيه، ويختار أن ترافقنا صور مألوفة لنا جدًا صور من ثلاجات منازلنا حيث نحتفظ باللحوم والخضار، يغرز عدسة الكاميرا بين أكياس النايلون والعلب البلاستيكية التي يتراكم الثلج داخلها وفوقها، ان ما يحمي لحمًا هنا ينتهك حرمة لحم هناك. يصاحب كل ذلك بصوت قطرت ماء لثلج يذوب. تنتقل الكاميرا ببطء وسلاسة نحو كيس من النايلون الأسود وقد التفت حول أجزاء منه ربطات بلاستيكية. يغلف الصمت بعضًا آخر من مشاهد تجسد فكرة الاحتجاز في الثلاجة فيقدم لنا مقاطع تمثيلية تتكور فيها أجساد وتتمدد أخرى مكبلة الأيدي على رفوف معدنية وسط بياض ناصع وأكفان نايلون سوداء، تتكشف الانتهاكات وسرقة الأعضاء وتمتد خطوط حمراء تشق صدور الجثامين لتضيف للتناقض بعدًا آخر، بُعد الأبيض والأسود، النقاء واللوث، الخير والشر.

في لحظة موجعة عندما يختار المخرج صور الطعام المجمد تقول والدة الشهيد المحتجز صالح البرغوثي أنها كلما فتحت ثلاجتها تذكرت جثمان ابنها المحتجز، هذا واقعه الآن. وفيما تقف الى جانب الشباك تراقب المطر المنهمر تبوح بخشيتها من البرد الذي يلف جثمان ابنها الآن. وفي تزامن صوتها والمطر وصور من قلب ثلاجة مطبخها ومدفئة وسط صالون بيتها خيار جميل يترك أثرًا قاسيًا في نفس المشاهد وجسده.

بوجهها المضرج بالوجع، تحمل والدة الشهيد أمجد أبو سلطان آخر البوم صور، تراجع يوم لقائها الاخير به حين رأته – على حد وصفها-كلوح جليد، تتحدث بحرقة كيف منعت من تقبيله، وتقتادنا بعد ذلك إلى غرفته لتستعيد شريط حياته الأخيرة سارًا، ضاحكًا، متحركًا بقالب بشري وجسد حار.

عند إطلاق الفيلم كانت الثلاجات الإسرائيلية تحتجز 248 شهيدًا، انضم إليهم جثمان الأسير وليد دقة، وجثامين أسرى آخرين خاضوا نضالهم على طول القطاع في زمن الإبادة. أجساد معتقلة في الجليد تنتظر دفء الحرية.

جميع الحقوق محفوظة © 2024