في شهر فبراير/شباط 2021، وفي إطار عملي مع إحدى منظمات حقوق الإنسان، وصلت إلى خربة الطوبا في مسافر يطا لتوثيق مشكلة نقص المياه التي يعاني منها السكان هناك. التقيت بعائلة العوض، إيمان التي استقبلتني بحفاوة، وقضت معظم وقتها في المطبخ تعد الشاي للضيوف والغداء للأطفال. علي، الذي كان ينقل في ذلك الوقت صهريج ماء إلى القرية، والأطفال الذين جلسوا للقيام بالوظائف البيتية- المدرسية على أرضية الغرفة، بدون فراش تقريباً
في تلك المناسبة التقيت بوفاء، وهي شابة حامل، أظهرت لي كيف تحمل الماء من حنفية متصلة بصهريج حتى مدخل منزلها، ملأت دلوين سعة كل منهما 18 لترًا، وسارت أمام عدسة الكاميرا على مسار شديد الانحدار أوصلنا إلى منزلها، وهو عبارة عن كهف ابتكر سكانه طرقًا لتقسيمه إلى غرفة نوم ومطبخ وغرفة أطفال
شعرت بالحرج لأنني كنت أتابعها وأوثق واقعها اليومي الصعب. في لحظة ما، أوقفت التسجيل واقترحت عليها مواصلة التصوير ومعها دلوان نصف فارغين من الماء، فضحكت وفاء، واستمرت في طريقها وكأنها تحمل وسادتين
عندما وصلنا إلى منزلها/كهفها، أخبرتني وفاء عن دورة الخياطة التي تتعلمها، ودعتني لزيارتها في شهر أبريل وأوضحت: "سأعد لك فريكة بلحم الحمام وسترين طفلي". انتهيت من مقابلتها، وشربنا شاي الأعشاب، واستمعنا إلى قصص عن عنف المستوطنين من مستوطنة ماعون، وعدت إلى المنزل بصورة لا تُنسى لامرأة شجاعة وقوية وحامل وبيدها دلوان من الماء
في عشرين قرية من قرى مسافر يطا، كل النساء وفاء وإيمان، كل الرجال علي، كلهم يعانون من عنف المستوطنين، كلهم يعانون من مخططات احتلال الأرض وهدم المنازل ومصادرة المعدات الأساسية، كلهم يعانون من نقص المياه، كلهم يحملون حقائب مليئة بالألم والحرمان، كلهم يعيشون بشجاعة وإصرار ضد كل ظلم الاحتلال وأذرعه. وجاء فيلم "لا أرض أخرى" (باسل عدرا، يوفال أبراهام، حمدان بلال، راحيل شور، 2024) ليؤكد ببساطة سينمائية الظلم والثمن الذي يدفعه الفلسطينيون بالجسد والروح والممتلكات
"لا أرض أخرى" ليس تحفة سينمائية، ولا يقدم معلومات حصرية، لأن الأحداث التي تظهر فيه شاهدناها ونشاهدها عبر شبكات التواصل الاجتماعي ونشرات الأخبار، وهو ليس فيلماً وثائقياً فريداً من نوعه، فقبله شاهدت فيلم "صارورة: مستقبل مكان مجهول" للمخرج الإيطالي نيكولا زامبيلي، الذي جاء ليوثق واقع قرية صارورة في مسافر يطا، فعاش مع السكان وعايش تجاربهم، والتقى بمجموعات تطوعية جاءت لدعم نضالهم، وعاش مع شخصيات بارزة في النضال مثل سامي هوريني من قرية توانة. ولكن لا يزال هناك سحر في هذا الفيلم لا يوجد في سابقه، وهو الارتباط بين باسل الفلسطيني ويوفال الإسرائيلي، شابان في نفس العمر، يعيشان على نفس الأرض في ظل نظامين حكم مختلفين تماما. في واقع الأمر، ينتمي يوفال إلى الجانب الذي يلحق كل الأذى بباسل. ومن حيث المبدأ والأخلاق، فهو لا ينتمي إلى هذا الجانب، وهنا تبدأ القصة المثيرة
قوة الفيلم تنبع أولا وقبل كل شيء من فيض المحتوى والأحداث، من شخصية باسل، من إصراره، من صورته وهو مستلقي على العشب وكاميرا فيديو صغيرة أمامه وجرافة كبيرة بعيدة خلفه في الخلفية، وبينهما يقاتل الجرافة عبر التوثيق. في الخلفية، أصوات تدمير المنازل، وصوت فولاذ الجرافة وهو يضرب الأسقف المعدنية، وهو صوت يقشعر له البدن، ومن المفيد ان يتردد صداه في دور السينما في جميع أنحاء العالم
في بداية الفيلم يتلقى باسل اتصالاً هاتفياً يدعوه للعودة إلى منزله، ويكشفنا للقصة مباشرة. وجوده هناك أثناء مداهمة الجيش مهم للغاية، فهو غوص عميق في واقعه الشخصي الصعب للغاية وواقع القرى الفلسطينية في مسافر يطا. نرافق باسل طوال الفيلم، نعيش لحظات القوة والضعف ، نسمعه، نراه، نذهب للعمل معه، نأكل معه، وندخن الشيشة معه أيضًا، وعندما يتعرض للضرب نكون هناك، شهودًا، وعندما يتمكن من الوقوف على قدميه مرة أخرى، كان من الصعب عليّ النهوض بسبب الشعور بالعجز، إنه نفس الشعور بالحرج في مواجهة حمل دلوي الماء من قبل وفاء
من جملة باسل "والدي لا يقهر"، يمكننا أن نفهم مصدر قوته، والتعليم الذي تلقاه، وأجواء تطوره، ثم يأتي الجزء الضخم من المواد الأرشيفية العائلية، والتوثيق والمقابلات والتصريحات أمام الكاميرا، والتي تضاف إليها مقاطع الأخبار والسرد الذي يربط قطع المعلومات ببعضها
إن نضال باسل عدرا إرث، نضال موثق على مر السنين. فمن المواد الأرشيفية العائلية من أيام أفضل، نسمع ونرى والده يتحدث عن "الصمود" بينما يجلس باسل، وهو صبي في السادسة أو السابعة من عمره، على مسافة قصيرة من والده، يستمع وينظر في عيني الكاميرا. كان هذا الارتباط والطريقة التي يتم بها تقديمه في الفيلم مهمًا لفهم تاريخ النضال، وربطه بالتوثيق المستقبلي لعنف المستوطنين، وعنف الجيش، وعنف الحكومات الإسرائيلية الذي يتزايد باستمرار. في هذا الفيلم، هناك تسلسل زمني للهجوم والتدمير يصل إلى ذروته بإطلاق النار من مسافة قريبة على شخص من قبل مستوطن مسلح يرتكب جريمة أمام أعين جندي يراقب دون ان يتدخل ويمنع ذلك
لم نكن بحاجة إلى عرض خرائط وشرح خطة الترحيل وهدفها، ولا إلى عملية الانتقال الصغيرة من بيت إلى بيت بين سوسيا وتوانة والطوبا، ولا إلى دخول غرفة المرحوم هارون أبو عرام، ولا إلى توثيق لجندي يغلق باب غرفة صف وأطفال مذعورين ما زالوا في الداخل، ولا إلى لمحة من شاشات الهواتف وساحة اللعب في القرية، كل شيء موجود في وجوه الناس، وجوه تغيرت على مدار نحو 80 عاماً من الاحتلال، ولكن الهدف واحد وواضح - لا توجد أرض أخرى، لن نقبل بأرض أخرى
في هذا الواقع الصعب، لا يكون حضور يوفال سهلاً، لكنه مثير للاهتمام. يلتقي هو وباسل، وهما رجلان في نفس العمر، في ظروف غير عادية وفي مكان غير عادي، ويتمكنان من تكوين رابط خاص وشخصي وإنساني بشكل لا يصدق. يوفال، المخرج الذي يأتي لإعداد مقال، يتواصل مع قصة المكان والناس. أحيانًا يكون شخصية توثيقية وأحيانًا يتدخل، لكن عظمة هذه الشخصية تكمن في التماهي والحضور الجسدي الذي ينتج محادثات شخصية مثيرة للاهتمام، محادثات عادية من المفترض ان تدور بين الرجلين، محادثات حول الأحلام والدراسات الأكاديمية، محادثات حول الأمل وخيبة الأمل، محادثات حول الزفاف الذي لن يأتي وحول الموسيقى والهجرة. سيكون من المثير للاهتمام للغاية لو تمكنا من الخروج من هذا الكرسي بجوار مضخة البنزين في الطابق العلوي لرؤية المكان الذي تجري فيه مثل هذه المحادثة
انطباعات في ومضات
عندما سمعت عن الفيلم للمرة الأولى، شعرت بالنفور من اسمه بسبب ارتباطه ذهنيا بأغنية ذات طابع وروح صهيونية "ليس لدي وطن آخر"، وفكرت مليًا في الاختيار، خوفًا من رؤية محتوى يقدم قصة ضحيتين ليس لديهما سوى هذا المكان. في أحد اللقاءات مع يوفال، قالت المحاورة ان اسم الفيلم هو "ليس لدي وطن آخر"، وهذا أثار غضبي، لأن تلك الأغنية التي لم يجبرونا على تعلمها في المدرسة، ولم يتم تشغيلها على "صوت العرب" من القاهرة، ولم يتم غنائها في الأعياد، أصبحت محفورة في رؤوسنا!
في إحدى محادثات باسل مع يوفال الثاني، سُئل عن خدمته العسكرية. لقد مرت هذه اللحظة بسرعة، لكنها حاسمة على أرض الواقع. هذا ليس سؤالا عرضيا
وسط كل الأنقاض والحرمان، هناك مكان للحب، وهناك مكان للمرأة، وهناك مكان للأطفال. رأينا الجبال تعانق أطفالها، والأزواج يعانقون بعضهم، وسمعنا عائلة تضحك وتغني معاً في حافلة في طريقها إلى رحلة، ورأينا قلق الأم من الطقس البارد، ورأينا أماً تكرس حياتها لابنها المشلول، ورأينا عائلة تجلس حول بضعة أطباق على العشاء في كهف. كل هذا يدفئ القلب قليلا ويبشر بقدرة البقاء المثالية لسكان مسافر يطا، والأهم من ذلك أنه يدحض الادعاء بأن الفلسطينيين متعطشين للدم.