المكان هويّة روح وعقل
سماح بصول

(الصورة: شاطئ بيروت\ ويكيبيديا)

لم تكن الأماكن أمرًا عابرًا في الأفلام، اختيارها جزء عضويّ من الحكايّة وقد تكون هي الحكايّة. تحمل بعض الأفلام اسم المكان فتحمّلنا بذلك كثيرًا من الأفكار والتوقعات، فيأتي الفيلم ليغذي توقعاتنا بتفاصيل مثيرة أو جديدة أو خيالية. وفي حالاته السيئة يكون الاسم تجاريًا لا غير.

تتتربع بيروت المكان بسحر تناقضاتها على عرش المدن التي تشكّل هوية الفيلم بحضورها في الاسم، وما أكثر الأفلام التي تحمل اسمها "بيروت الغربية"، "وأشباح بيروت" و "بيروت يا بيروت".. تليها القاهرة ثم شقيقاتها الاخريات من المدن العربية كـ  "القدس في يوم آخر" و "دموع غزة" و "الملائكة لا تحلق فوق الدار البيضاء" و "اسكندرية ليه" و "يا أنا يا حيفا". ومن المخرجين من اختاروا مسرح الاحداث مكانًا عينيًا في حيّ ما في مدينة ما، ذات معانٍ أكثر تفصيلًا.

باختياره المكان، يكون هناك ما يلزم بناء دورٍ له يؤثر في الشخصيات ويتأثر منها، ففي الفيلم الإيطالي الشهير "ساعي البريد Il postino"  (1994) يُحدث صعود الجبل وصولًا إلى بيت الشاعر الثائر بابلو نيرودا تغييرًا جذريًا لدى ساعي البريد، بحيث يصبح الوصول إلى قمة الجبل مجازًا لكيفية رؤية الساعي للعالم وقراره الانضمام إلى العمال الثائرين ومن ثم التحوّل إلى بطل. وجود بيت نيرودا في هذا المكان هو تعبير عن الفرق المعرفيّ والوعيّ السياسيّ الحقوقيّ بين الشاعر وعموم الناس البسطاء محترفي الصيد وشواء السمك على جزيرة صغيرة، لكنه في الوقت ذاته كناية عن الطموح الإنسانيّ والارتقاء بالكينونة والكرامة الإنسانيّة.

وكذلك اختار المخرج المصري الراحل محمد خان شقة في بناية سكنية في فيلمه "في شقة مصر الجديدة" (2007) لتكون مسرحًا لأكثر من خمس قصص حب تنوّعت بين حب مفهوم الحب وبين حب رجل لامرأة وبالعكس. لولا تكدّس الذكريات في الشقة لما انطلقت بطلته "نوچا" في رحلة تعثرُ فيها على الحب خلال بحثتها عن شيء آخر. أما المصري مروان حامد فاختار "عمارة يعقوبيان" مكانًا تجتمع فيه قصص عن المصريّ المعاصر أثارت الجدل الاجتماعيّ والسياسيّ، واعاد للأذهان الرغبة في نبش تاريخ عمارة شهيرة وسط القاهرة تحمل الاسم ذاته.

 

هوامش الحيّ

اختار المصريّ أحمد عبد الله مخرج فيلم "19 ب" مكانًا عبارة عن بناية تفوح منها روح الحيّ المصري، ألوانه الترابية، علوّه، مساحته المُحاطة بسور وأحواض النعناع، داخله الذي تتسرّب إليه خيوط النور فتقع على تفاصيله الهندسيّة البسيطة، يتحوّل هذا المكان شيئًا فشيئًا إلى صاحب السلطة التي تشكّل كيان ساكنيه.

في فيلا مهجورة رقم هويتها 19 ب، تعيش مجموعة من الكلاب والقطط بسلام مع حارس المبنى الذي يكرّس حياته لحراسة الفيلا رغم غياب ساكنيها، ويجعل من هذا العمل مشروع حياته الأوحد، ويقوم على رعاية الحيوانات التي أوت إلى المكان بفضل فطرتها في العثور على أماكن هجرها البشر، وقلوب ترأف بها.

في أحد أحياء القاهرة حيث يتقاسم البسطاء هوامش الحيّ بشراسة تُطبخ عل نار هادئة، تقع فيلا مهجورة وسط مجموعة بنايات تشهد اكتظاظ سيارات خانق يجعل من "رَكْن السيارة" مهنة يتخذها اثنين من شباب الحيّ الذين يبدو أنهما ولدا لحراس البنايات، تدب الحياة في كل البنايات إلا 19 ب، حيث هجر السكان الفيلا تاركين وراءهم حارسًا تقوقع في المكان، تداعت جدران الفيلا وغطى الغبار الذكريات، لكن الحارس الوحيد يأبى أن يترك عمله، وحجتّه أنه يتقاضى أجرًا مقابل ذلك، يغادر بيجامته كل صباح ويرتدي دور الحارس، ولا يزال يتعامل مع الفيلا وكأنها تعج بالحياة ويأبى أن تغلق سيارة ما مدخل الحيز الذي لا يدخله أحد وكأن سيارة "البيه" قد تصل في أي لحظة.

هذا الإخلاص المفرط، وحصر معنى الحياة في التواجد في المكان ورعاية مجموعة من الكلاب والقطط، يثير في المشاهد حالة من الشك، هل يمكن ان يعتزل الانسان الحياة اخلاصا لعمله؟ ما الذي يجعله حريصا على مُلك اختفى اصحابه؟ أين اختفى أصحابه أصلًا؟ وهل يمكن ان يصبح الاعتياد على المكان حاجزا امام الاحساس بخطورة سقف تتساقط اجزاء منه كحبات توت نضجت وفارقت غصنها؟

في هذا الفيلم، يتحوّل المكان الى مصيدة، يصبح الانسان جزءًا من جمادِه، وليس عبثًا أن يفتتح المخرج الحكاية بقطة تقع في مصيدة الفئران، فها هو مصدر لقمة العيش يتحوّل إلى مقبرة.

صحيح أن محمود درويش كتب "عَنَاوِينُ لِلرُّوح خَارِجَ هَذَا المَكَانِ" لكن يبدو أن عنوان الروح والنفس هنا مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالعنوان، الذي يصبح مسرح الاحداث وكاتبها ومخرجها، فبطل الحكاية يعيش في قلب الماضي الذي يفرضه مكان وجوده، البيت قديم تماما كما تركه أصحابه، الاغاني قديمة، الحياة تكاد تكون بدائية، القطط والكلاب تعيش معا وكأنها في سفينة نوح، الوحدة والانعزال تجعل البطل كالإنسان الأول، الفئران التي تقضم أسلاك الكهرباء تقطع البيت عن حضارة الكهرباء!

في هذا المكان الشاحب إنسان غريب، يفجّر غضبه أي جرح قد يصاب به كلب لقيط، ولكنه بالمقابل لا يكترث للبشر، لا يكترث لجوع إنسان او حاجته للمأوى، لا يغضبه جرح يصيب جسد أحدهم أو قلبه، ولا يتواني عن إيذاء بشريّ أو تعطيل لقمة عيشه. هذه الحالة من تلبد المشاعر مثيرة للريبة عندما تخلّف وراءها جثة يحوّلها المخرج بلقطة سريعة ساحرة في النهاية إلى خيط لإعادة التفكير في سرّ فيلا 19 ب، فما الذي يحرسه هذا الرجل حقًا؟

 

جزيرة الذكريات

 

يأخذنا المخرج التونسي رضا الباهي في رحلة إلى المكان أيضًا من خلال فيلمه "جزيرة الغفران" التي نصل إليها على قارب ذكريات أندريا العائد إلى مسقط رأسه رجلًا بالغًا يروي لنا فصلا من فصول طفولته، حيث نتعثر بجزيرة قد تكون جزيرة الخطايا التي تنتظر الغفران.

يروي لنا اندريا قصته المركبة حيث تعيش عائلته الإيطالية إلى جانب التونسيين إبان الاستعمار الفرنسي، الأب الصياد والأم التي تدير حانة، الجدّة والعمة وحبيبها  والعم الغائب. الأسرار العائلية، والخطايا والحب وتنوّع الأديان. كم هي قادرة هذه الجزيرة – جزيرة جربة التونسية -  أن تحتوي، وكم هي قادرة أن تكون كافية لكل هذا الصخب، يتغيّر كل شي في تفاصيل من يدوسون ترابها، وتبقى هي ثابتة على صورتها.

تسري الحياة على ما يرام، عائلية أندريا هي عائلة إيطالية مسيحية تعيش حياتها وسط المسلمين في جزيرة وادعة، عامل البريد من أصول إيطالية أيضًا يميل إلى دعم جيرانه فيكشف للمقاومين منهم أسرار الفرنسي المستعمِر المُتناقلة عبر الرسائل، يرافق أندريا والده على قارب الصيد، تعلّمه العمة العزباء العزف، وفجأة؛ يتصدع هذا الهدوء عندما يتعرض الأب لحادث في البحر، وتنكشف أمامنا الحقيقة أن أندريا ليس إبن أبيه وأن عمّه المنبوذ هو والده الحقيقي، تشاء أقدار السيناريو أن يعود العم طلبًا حُبَه القديم فيلقى حتفه، هكذا تفرض قيامة الأسرار من بين الأموات، وجثة العم على عائلة أندريا الصغيرة الانتقال الى مكان آخر للسكن.

بتغيّر المكان تتغيّر حياة الشخصيات كليًا، فيفرض المكان الجديد نفسه بكل ما فيه على ساكنيه، فساحة البيت لم تعد كما كانت، لم يعد شرب النبيذ فيها من الملذات وصار من المحرمات، بدّل صوت الآذان صوت الموج، وصار حفظ القرآن من واجبات أندريا المدرسية، كما أن تفاصيل جسده باتت متناقضة مع الهويّة الإسلامية المحيطة.. هكذا يفرض المكان نفسه برويّة إلى أن تنتهي الحكاية!

"عندما ترى أن المكان لم يتغيّر تعرف كم تغيّرت أنت" يقول أندريا البالغ عندما يعود إلى الجزيرة زائرًا باحثًا عن بيت عائلته.

ليست الشخصيات هنا على درجة عالية من التركيب، وسير حياتها البطيء تمليه طبيعة المكان. فالجزيرة ليست بالضرورة أرضًا محاطة بالماء، قد تكون الجزيرة كناية عن مكان الخلاص، فالخطايا فيها مغتفرة، والماضي منسيّ، والحاضر معيش بلا استعجال.

جميع الحقوق محفوظة © 2024