في العشرين من شباط 2023 تحل الذكرى الأولى لوفاة صاحب الصوت العظيم سامي كلارك، هذا الراحل الخالد بصوته المتفرد في ما قدّم لمسلسلات الكرتون؛ ولو أن ذاك اقتصر على "جريندايزر"، و "جزيرة الكنز" مطلع الثمانينات. صوته العميق الرزين، حفر له مكانًا عصيّا على البهتان في أذهان من عايشوا تلك المسلسلات، لم يكن البطل وحده من أسر العقول والقلوب، بل الصوت الذي افتتح الحلقات واحدة تلو الأخرى، ورسم حدودًا للمسلسل الكرتونيّ زادت من رفعة الأبطال وهيبة شخصياتهم، وبعث ذاك الصوت فينا شعورًا باتساع المدى واحتدام التوتر ما بين البطل ورفاقه ومنافسيه وحلمه.
ألّف جوزيف خوري أغنية "جزيرة الكنز" في العام 1984؛ فكانت ساحرة بكل تفاصيلها، ورغم ما تحتويه القصة حقًا من جشع وسعي نحو الحصول على كنز في جزيرة بعيدة وترحال محفوف بالمخاطر قد يدفع البطل للتصرف بغير الأخلاق المتعارف عليها، فإنّ الأغنية تبث روح العمل الجماعي والوحدة، الرغبة في مكافحة الخطر واكتشاف الجديد، والتميّز الذي سينتهي بالمكافأة:
ها نحن ذا.. على دروب كنزنا
نسير معًا .. وآمالنا تسير قبلنا
من غيرنا؟.. يقطع يوما مثلنا
دربا خطيرة إلى الجزيرة
من غيرنا?
جزيرة عجيبة وكنزنا فيها
دروبها غريبة.. فلنوافيها
نخاف المخاطر لأنها كثيرة
لكننا معا .. وكنزنا في الجزيرة
غنى سامي كلارك الالحان الأصلية لمسلسلات الأنيمي اليابانية، بكلمات عربية. أغنية "علّي علّي" لمسلسل "جريندايزر" من تأليف الشاعر السوري موفق شيخ الأرض في سنة 1979، تخطّت شعبيتها حدود المسلسل الكرتونيّ وصارت واحدة من الأغاني التي يطلبها الجمهور في كل حفلات الفنان كلارك، أغنية لا يزال فيها للخير في الأرض مكان:
علّي علّي بطل فْليد ..هيا طِر يا جريندايزر
بعزم علّي حممًا أرسل، افتك بالأعداء
كافح شرًا أبطل مكرًا بحزم وإباء
إمنع طمعًا إردع جشعًا فالخطر كبير
هاذي الأرض يا جريندايزر كوكبٌ صغير
خيرها يزهو حبها يسمو للعدل الفسيح
دافعوا دافعوا حتى تفوزوا بالحب العظيم فالخير عميم
قبل عامين من وفاته، وبعد ابتعاد سنوات عن عالم المسلسلات الكرتونيّةـ أعاد صنّاع سلسلة الكوميكس الاماراتية "عزّام فارس الطبيعة" صوت سامي كلارك إلى كوكب الكرتون من خلال شراكة مع الفنان طارق العربي طرقان وابنه محمد، فغنّى كلارك كلمات مشبعة بروح الجزيرة العربية وحضارتها وإرث صحراها:
من عُمقِ تاريخِنا قد أتى .. قبلَ الّلماذا وقبلَ المتى
فارسٌ أشَم يَعتَلِي القِمم .. عَادَ من أحلامِنا لِيُبرِئ الذّمم
عزّام نَارٌ على جُورِ اللِّئَام .. عزّام نُور إذا لاقَى الكِرام
يامِشعلاً لاحَ بينَ الظّلال .. هزّ اللّيالي وصَدّ الغُمَم
أبرقي أرعدي أبطالا
رغم مرور ما يقارب 45عامًا، لا يزال صوت محبة ينادي مغادرًا حنجرة نهى هاشم وحاضرًا في البال وهي تغني شارة المسلسل الكرتونيّ "ساندي بيل"، وما اروعها الراحلة عايدة ابو نوارة وهي تؤدي شارة "ليدي ليدي"، وشوق يدفع رشا رزق تغني "أخي" وتكتشف الغامض والمثير في هذا العالم مع "المحقق كونان". كم هو عالمُ جميل عالم الأطفال الذي يبدع فيه طارق العربي طرقان بشكل خاص ويثريه، ويجعْل بعضًا من أغاني مسلسلاته الكرتونيّة تحفًا فنيّة عظيمة تحمل أبعادًا إنسانيّةً ووطنية لعل أبرزها ما كتبه حاملًا تكريمًا ضمنيًا لأطفال غزة- شارة لمسلسل "هزيم الرعد" يقول فيها:
أبرقي أرعدي أبطالا وعدوك أنبل وعد
جاؤوك بصوت الحق
الهادر كهزيــم الرعــد
بسيوف أقوى من نارٍ عرفت كيف الردّ
ما هُنتي ولم تهني بل من اجلك ثأر أشتد
ما عاش الظالم يسبيكِ وفينا نفسٌ بعد
بحنيني بدمي أفديكِ وروحي تنبت مجد
يا ألطاف السنافر كم كبرنا ولا تزال ترافقنا مجموعة من الأغاني كًنّا نجهل كاتبها ومؤديها وربما مغزاها، غنيناها وترافقت معها صور جميلة لحميدو، وفلونة، ولبنى، والسندباد، والرحالة الصغير والمشاغب توم سوير؛ تفاوتت، فكان من بينها ما لا يمكن نسيانه.
كانت حياتنا مسرةٌ، توقفنا في مرحلة طفولتها مشككيين بصدق رواية عن حوت أبيض يسبح في الفضاء، أو عدنان الذي يستطيع الصمود في قعر البحر لوقت طويل وكأنه كائن برمائيّ، أو بواقعية "الضربة الصاروخيّة المُلتفّة" وهي تهز شباك الخصم، لكننا انسبنا مع جمال الأغنيات التي افتتحت هذه الأعمال، وساقتنا نحو غرف التلفزيون، أصغينا للصوت وسلاسة الكلمات دون الانشغال بتحليل معناها، أو صدق مقصدها، غنينا شارة مسلسلاتنا المفضلة من الرسوم الكرتونية حتى لو اخطأنا لفظ بعضها واستبدلناها بكلمات ذات وزن شبيه من مناهل قواميس أذهاننا الصغيرة. لا تزال في ذاكرة كل منا؛ بغض النظر عن عمره وتجاربه؛ أحداث وأسماء وقصص وألحان تلفنا بالكثير من البساطة والبراءة، والحنين إلى ماضٍ كانت الفقرة الكرتونية فيه فصلًا من جدول حيواتنا اليومية! كانت الأغنيات تُنسب للعمل وشخصياته وليس بمغنيها، فهو صوت مجهول، نحبه ونستمع اليه لحسن أدائه او قوة صوته وجماله او كلمات يغنيها او شهرة المسلسل ومغامرات أبطاله، وما من شك ان الاغاني التي لم تمُت هي تلك التي نجحت في تقديم كل هذه معًا.
لا يتعلق الامر بأعمارنا، او بالسنوات التي عايشنا فيها تلك الاغاني ومدى انكشاف آذاننا وعقولنا على الموسيقى، بل يتعلق الامر بفطرة طفل كما ورد في الآية القرآنية :" وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (سورة النحل/ آية 78)؛ كهذا ولدنا، قدّم الخالق السمع على البصر، لنسمع ونستمع قبل أن ندرك المعنى. وقد كتبت برينيس نايلاند في مقالها "فن الاستماع"[1] ان الموسيقى عبارة عن نص أساسي يتم استكشافه خلال تطوّر الطفل، وأن النصوص الموسيقية هي وسيلة قوية لتوصيل المشاعر من أجل التنظيم والرقابة الذاتية وتطوير الفهم الثقافي لدى الصغار. لذا ليس غريبًا أن تبقى الموسيقى الأولى التي استمعنا إليها بعد هدهدات أمهاتنا، وقد أثرتها كلمات سهلة الحفظ؛ في دواخلنا لحنًا وكلمة.
نغني للحب والخير والأم
تتردد في الكثير من شارات المسلسلات الكرتونية كلمات مثل الخير، والمحبة، والأرض، والأشرار، والأمل. يحكي جزء منها قصة مختصرة عن حياة البطل/ة، ويحث جزء ثانٍ على العمل الجماعي والوحدة. قد يكون جمال هذه الأغاني وإجماعنا على حبها وسهولة حفظنا لها مرتبطًا بفكرة عدم الاختلاف على بطولة البطل/ة، فهو وحيد لا منافس له، لا يترك لنا العمل الكرتونيّ أي مجال للخلاف بل نُجمع جميعًا على حبنا للشخصية، نتعاطف معها ونكره أعداءها، ونتوتر عند وقوعها في المصاعب.
منذ مطلع الحالي تجول العرض الغنائي "أيام العز" – غناء نور درويش، أكرم عودة وماريا جبران- في عدد من المدن الفلسطينية في الداخل، ولعل لهفة الجمهور وتفاعله وقدرته على أداء كل الأغاني جدير بالبحث والفحص على المستوى الاجتماعيّ؛ فالحديث ليس عن استعادة لطفولة مفقودة، ولا لأغانٍ غائبة عن التطبيقات الموسيقية، بل ربما من قدرة المئات اقتسام فرح مشترك، وحب بطل لا يُقهر، ولغة عربية جميلة سلسة نفهمها جميعًا على اختلاف قدراتنا العلمية او الثقافية، أغانٍ تجمع مختلف الشرائح والطبقات الاجتماعية، وتحتفي بالإنسانية، وتحث على القيّم.
تعكس أغاني المسلسلات الكرتونية صورة عن مشاعر طفولة نقيّة، وعلاقات إنسانية وعائلية مثالية، ورغبة في دفع الظلم، وتعاطف مع الفئات المقموعة والمسحوقة. كلماتها تغذي رغبتنا في الانتماء والفخر. وعلى الرغم من المعاناة التي يعيشها معظم أبطال المسلسلات الكرتونيّة إلا أن الأمل والحب ينتصران في النهاية، فنحفل نحن بالعدالة وهي تتحقق وبالعقاب الذي يطال الظالم والكاذب والشرير.
قيّم الديجيتال!
في الانتقال من عوالم البشر إلى عوالم الروبوتات والمخلوقات الفضائية والديجيتال لا تزال هناك مُثل لا تتغيّر. لا يزال التفاني من أجل إنقاذ الأرض من أعدائها ومدمريها واجبًا، ولا تزال المنافسة الشريفة رغبة، ولا يزال السلام حلمًا.
قد نعتقد أن محاربة الظلم والتمسك بالقيم الخيّرة كان حكرًا على الأعمال المُنتجة حتى سنوات التسعينات، لكننا نُفاجأ بأن شارات أعمال جديدة وليدة الألفية الثانية وما تلاها تحمل نفس الهم، ورغم تبدل شكل الشخصيات وأسمائها، لا يزال الأبطال يحملون هدفًا نبيلًا وسط اللهث والتسارع وتفوق المنظومات المحوسبة وسيطرتها على حياتنا، فتقول أغنية "أبطال الديجيتال 2":
نحتفظ بهدوء اعصابنا نغامر
نعلم انا لن يعيدنا الامل.. من عالم الديجيتال
بل العمل معا
يدًا بيد بحثا عن الطريق هيا
ويتابع مسيرتهم "أبطال الديجيتال 3" الذين لا يرون في البشر أعداءًا كما كُنا نألف، بل أصبح العدو هو الفيروس والمخاطر صارت بيانات :
من اصوات الابطال ..تفهم ما يقال
يأتي فيروس ويؤسر .. اسحب منه البيانات
اقضي على الفيروسات
أما "أبطال الديجيتال 4" فمسعاهم نحو المستقبل مرتبط بمن سبقوهم، وعيونهم نحو العوالم المثيرة والغد الأفضل :
هيا للعمل ..كي نصنع المستقبل
لا يسعنا الانتظار.. لا وقت للاختيار
فكلنا أمل.. لرسم غد افضل
معًا معًا.. في رحلة
إلى عوالم من خيال .. مفيدة مثيرة
حتى المخلوقات الغريبة او الاقنعة لا تزال كلها تسير في المضمار ذاته، باحثة عن الخير، ولكن المنافسة والتفوق أصبحت أكثر حضورًا ووضوحًا. لم ترغب فلونة التفوّق على أحد بل كانت ترغب في البقاء على قيد الحياة، وكذا كان عدنان الذي يريد منع وصول الاسلحة الفتّاكة لأيدي الأشرار ليعيش، لكن "سوبر سونيك سبينر" و "روبوكون" و "بوكيمون" كلها أعمال تغذي روح المنافسة والتفوق الشخصي، وحتمية استخدام التقنيات الحديثة لإنقاذ البشرية!
أحلم دومًا أن أكون
الافضل بين جميع
لذا اجمع بوكيمون
سلاحي البهيج
سأسافر نحو الارض
باحثا في كل مكان
عن بوكيمون
أداة سلام
هي ذا قوات حفظ السلام بحلة جديدة.. سلاحُنا البهيج!
[1] Nyland, Berenice (2019). The Art of Listening: Infants and Toddlers in Education and Care Group Settings. In Susan Young & Beatriz Ilari (eds.), Music in Early Childhood: Multi-Disciplinary Perspectives and Inter-Disciplinary Exchanges. Springer Verlag. pp. 59-69 (2019)