في الثاني عشر من تشرين أول 2015، في فترة حرجة عُرفت بمسمى "انتفاضة السكاكين"، خرج أحمد مناصرة برفقة إبن عمّه حسن من بيت حنينا إلى مستوطنة بسجات زئيف، هناك؛ تم إطلاق النار عليهما بادعاء تنفيذ عملية طعن، استشهد حسن، فيما هوى أحمد أرضًا نازفًا ومن حوله مستوطنون يشتمونه ويصرخون في وجهة "مُت"!
من بين المئات من الأسرى الأطفال والفتيان، قد يكون الأسير أحمد مناصرة المولود عام 2002، أكثرهم شهرة في السنوات الأخيرة، يعود ذلك لعدد من المسببات وعلى رأسها إصابته وطريقة اعتقاله، وفيما بعد تعمّد سلطات الاحتلال نشر فيديو يكشف بعض التحقيق معه.
كمادّة فيلميّة، يحمل فيديو التحقيق مع أحمد مناصرة رسائل كثيرة للشعب الفلسطينيّ يافعين وشبّان وآباءٍ وأمهات، فالترهيب الذي يُمارس ضد أحمد لا يستهدفه وحيدًا، بل عقول ونفوس كل مشاهديه، وعلى وجه الخصوص اللحظة المتجذّرة في الذاكرة حين ضرب أحمد رأسه بيده وصرخ باكيًا أمام المحقق "مِش متذكّر"! ولهذا المشهد أصل وفصل يعودان لسياسات تنتهجها إسرئيل تجاه أطفال وفتيان الضفّة الغربيّة.
***
يأتي الفيلم الوثائقيّ "ولديّن في اليوم" للمخرج الإسرائيليّ دافيد فاكسمان (2022) ليبحث في قضية اعتقال وأسر الأطفال والفتيان الفلسطينيين، ويستخرج من التوثيق المرئّي والمسموع للتحقيقات شهادات على الترويع المًمارس هناك كجزءٍ من حربٍ نفسيّة لاستنزاف الأهل والأطفال والفتيان على حد سواء.
يُستدل من عنوان الفيلم "ولدين في اليوم" منهجيّة إدارة هذا الموضوع، فالحديث عن "حملات" مدروسة يجب أن تؤتي ثمارًا من معتَقَلين إذا ما تم تقسيمُهم على أيّام السنة فسيكون العدد إثنين يوميًا، هكذا تتم الاعتقالات بالجملة وفرز "المرشحين"، ومن ثم انتقاء من بينهم من سيرتقي لاحقًا لدرجة "أسير"!
قد يبدو هذا الوصف فظًا، لكنه في حقيقة الأمر عمليّة تنفيذيّة لخطط وضعها باحكام أخصائّيون عسكريون ونفسيون، تهدف إلى قمع النواة الثائرة ضد المحتل، وإحباط إمكانيات تشكّل جيلٍ مقاومٍ جديد.
تنطلق الحكاية في الفيلم من استشهاد الفتى عبد الرحمن عبيّد الله من مخيّم عايدة قرب بيت لحم، واعتقال أصدقائه الذين خرجوا مدفوعين بألمٍ وغضبٍ شديديّن بعد الجنازة ليرشقوا قوات الجيش بالحجارة. كانوا أطفالًا عائدين من المدرسة عندما سال دمُ عبد الرحمن على أرض المخيم بفعل ثلاث رصاصاتٍ أصابته إحداها في صدره.
يصوّر الفيلم أربعة من أصدقاء الشهيد، فتيان يانعون تركت إهانات التحقيق، والتعذيب، وبث الذعر واختلاق القصص، وعتمة السجون أثرها في بريق عيونهم الذي خفتْ. يُطل علينا محمد المساعيد وأخوه أنس المساعيد، وآدم درويش، وعلي جواريش من خلال فيديوهات التحقيق معهم، ومقابلاتٍ تثير في المشاهد شعورًا بالاختناق!
يرفض آدم كليًا مشاهدة فيديو التحقيق معه، فهو يرفض استعادة الألم وقد بدا له أنّه تخطّاه، لكن دخان سجائره كفيل بالتعبير عمّا يرفض أن يقول جهرًا. أمّا في تعابير وجه أنس المساعيد فنفهم كل ما لا ولن يقال حول تجربة الاعتقال، دموع حبيسة وعطش، وحركات كثيرة تجتهد لاستعادة حالة "الوضع الطبيعي".
***
يجلس آدم درويش على كرسيّ في مكتب المحقق يغطي رأسه بقبعة جاكيت شتويّ أسود، يحاول كسر صمت الانتظار بحوار مع المحقّق منتقدًا كم الأوراق التي تتم تعبئتها خلال التحقيق ومن ثم يعرّج نحو حوار حول أسعار الطعام السريع، المحقق الذي يجلس أمامه يسأله بالعربية ويسجّل إجاباته ويتحايل عليه بين اللطف والفظاظة لدفعه للإدلاء بأقوال تنم عن موقف نادم على تصرّف فطريّ لمن ولد مُحاصرًا بالاستيطان وبالأسوار والحواجز وبنادق المحتل. يريه المحقق صورًا ويسأله "ماذا فعلت هنا؟" فيرد آدم "لم أكن هناكّ"، يصمت آدم، يذبل، يصحو، يبكي، يتحدث ثم يعود للصمت وسط عدم اكتراث المحقق الذي يعرض عليه صورة صديقه عليّ، فيأتون بعليّ الذي يشتكي من تعريتّه وكمّ الضرب الذي تلقّاه، فيرُد المحقق بأن هذا الضرب نتيجة الكذب، ويدعوه لقول "الحقيقة" كي ينجو، لكنها في الواقع حقيقة صيغت سلفًا كجزء من مفتريات المنظومة الإسرائيليّة.. لا يكف عليّ عن البكاء والاستجداءالهادئ وهو يؤكّد : "ولا عمري إنسجنت" ويسأل متى سيعود إلى البيت لأن الوقت تأخر، لكنه يمكث هناك، سنتين!
ترصد عدسات الفيلم كيفية تنفيذ عمليات الاعتقال التي تتم بهدوء منتصف الليل، أطفال مكبّلون يتم إخراجهم من بيوتهم معصوبي الأعين، يقتادهم جنود نحو مركبات عسكرية وينطلقون بهم إلى مكان مجهول.
يأتي هذا استباقّا لاستيضاح كيفية سعي السلطات العسكريّة والأمنيّة الإسرائيليّة إلى إنتاج أسرى محرّرين غير قادرين على مواصلة حياتهم بشكلٍ سليم، غير جاهزين ليكونوا جزءّا من النضال، شبابٌ تم تشويه طفولتهم ونشأتهم بحيث باتوا يَروْن في "الحيط الحيط" وسيلة للبقاء على ما تبقّى من الحياة.
مقابل الفلسطينيين تخلق كاميرا فاكسمان أرضيّة لفهم ما يدور في الجانب الإسرائيلي، حيث توضع المخططات التي ترى هؤلاء الأطفال والفتيان بعد سنواتٍ من الأسر، كيف تنوي استئصال أيّ شعورٍ أو دافعٍ للوقوف على خط مواجهة الجنود وآلياتهم، وكيف تنوي استخدام هؤلاء كطُعم للإيقاع بأبناء جيلهم في فخ الامتناع عن المشاركة في أي فعل مقاوم.
يدّعي صاحب منصب كبير سابق في الشاباك بأنّه لا وجود لأي سياسة إسرائيليّة متعلقة باعتقال الأطفال والفتيان، انّما سياسة عامّة لاحباط "الإرهاب" وعندما يكون هؤلاء القاصرين جزءًا من منظومة "الإرهاب" فيتم اعتقالهم! ويؤكد "يخلق هذا الاعتقال رادعًا، ويفرض صمتًا نسبيًا لفترة معينة، وهذا طبيعيّ ومنطقيّ"! فيؤكّد المعلومة ضابط سابق في الجيش حين يقول: "أحيانا يكون الاعتقال فعلًا رادعًا، عندما تنفّذ الاعتقالات داخل البيوت فمن المفضل تنفيذها ليلًا بهدوء وسرعة فيما يكون الجميع نائمون"!
أما المتحدث باسم النيابة العسكرية، مستوطن في إفرات، فخورُ باستيطانه، فيدّعي أن الحجَر الذي يرميه طفل فلسطينيّ على سيّارة إسرائيليّة يحمل معه خطر الموت! ويدّعي كذلك أن لا وجود للأيديولوجيا في أذهان أطفال بجيل الثالثة عشرة لأن ممارساتهم هي إرهابٌ بعينه! فهم يكبرون على وهم العودة إلى يافا، وكراهية اليهودي.
يوضّح المحامي المدافع عن حقوق الإنسان نيري راماتي المترافع في المحاكم العسكريّة في الضفّة الغربيّة بأنّه تصعب رؤيّة هؤلاء المعتقلين كأطفالٍ من قبل المنظومة الأمنيّة، فكلُ الفاعلين فيها يَروْن في المعتقلين الأطفال والفتيان مجرمون، عرب، موقوفون أو متهمون، إرهابيون.. ثم أطفال. ويصف هذا بالشر المتجذّر في المنظومة بأكملها، حيث يتم استخدام المحاكمة كوسيلة قمع تمامًا كالقنابل، مؤكدًا أن قرية بيت أُمّر شهدت في أحد الأعوام غياب صف كامل عن افتتاح السنة الدراسيّة بعد تعرّض كل طلابه للاعتقال.. ماكنات الاعتقال – يقول نيري!
إذًا، تعتبر المنظومتان العسكريّة والأمنيّة الإسرائيليّة اعتقال الأطفال والفتيان من القرى المجاورة للمستوطنات على وجه الخصوص؛ نهجًا لإخضاع القرى، لأنّ المستوطنة تقضم الأراضي وتتسبّب في غغلاق الشوارع وخنق القرية، ولأن الشباب هم الطاقة المتمردة الثائرة ضد الاستيطان فهناك مخطط لمنع فتيل الطاقة من الاشتعال واخضاعها جيلًا بعد جيل. فيأتي وكلاء المنظومة ليطرقوا الأبواب ليلًا، يضيؤون دواخل البيوت بمصابيحهم القويّة المزعجّة، ينتهكون الحُرمات والخصوصيّات، ويدّعون أنهم جاؤوا لتنفيذ عمليّة عينيّة وواضحةٍ دون إحداث أيّ أذى! أو يدخلون ملثمين بسياراتٍ مدنيّةٍ ويعتقلون اطفالا خلال لعبهم في شوارع الأحياء.
***
يشهد الأسرى الأطفال والفتيان المحرّرون الأربعة أن التجربة تركت فيهم أثرًا بالغًا، فيستذكر محمد كيف هدّده المحقق "نزيه" بمعاقبة أهله لكنه لم يعترف بشيء. "نزيه" - الذي يصعب الربط الرمزيّ ما بين اسمه وأدائه لوظيفته كما لو كنا نتحدث عن شخصيات في فيلم دراميّ- أطفأ الكاميرا وأوسع محمد ضربًا بقيت علاماته ظاهرة على وجه محمد ونفسيته. أما عليّ فيستيقظ مذعورًا من نومه بحثًا عن جنود جاؤوا لاعتقاله. وآدم الذي تخطى الثامنة عشرة وبدأ دراسته في عالم إعداد الحلويات فلا يرى من طفولته إلا مرارتها التي يشاركها مع أطفال المخيم قائلًا: "أنا جرّبت العذاب، وأنت لن تحتمل ذلك". ثم يأتينا أنس، بمقولة مرعبة بلهجته الفلاحيّة المميّزة: "أحسّ حالي جُثة بعد السجن! أشوف أولاد صغار يضيعوا ويحرقوا قلب أهلهم، وما يستفيدوا إشي"!
***
قد تكون هذه المواقف في نهاية الفيلم مستفزة، وكأن الفيلم يريد أن يبث رسالة تستوي مع النظرة العسكريّة الإسرائيليّة وغايتها، لكن مشاهد اعتقالات الأطفال والفتيان التي تتكرر في الفيلم، أطفال صغار لا يتعدى عمرُ بعضهم الثامنة، يقفون جنبًا إلى جنب مع شباب كبار أمام آليات عسكرية مصفحّة ومحصنّة يرمونها بالحجارة ويستهدفون زجاجها بعلب الطلاء، تسير بنا رجوعًا إلى مواقف بطوليّة عبّر عنها أصحابها بكلمات بسيطة تتفوّق على دراسّة قياسيّة تقييميّة، فمحمد الذي ينكر معرفته بأسماء أولاد صفّه خشية تعرّضهم للاعتقال يقول الآن واثقًا : "صار فيي شجاعة بعد السجن، إذا أنا موقّفتش أنو بدو يوقّف، إذا مرميتش حجار انو بدو يرمي"، أمّا شقيقه أنس الذي ينجح في استفزاز المحقق كثيرًا وهو يقول له : "أنا برمي حجار عشان الوطن" فيؤكد لنا رغم تجربته المؤلمّة : "لما ييجي اليوم إللي نحرر فلسطين رح نحررها"!
في هذا الوقت لا يزال أحمد مناصرة بعيدًا عن هواء الحريّة، يكبر ويبتعد عن سنوات طفولته، تتراكم سنوات سجنه وعزله مع أمراضه وكدمات تغطي معظم أجزاء روحه.
لتقف مشاهد اعتقال الأطفال والفتيان برفقة مصطلحات الشجاعة والوطن والتحرير معًا في أفق ليس بالبعيد مقابل مخطّطات المنظومة. هل قادرة هذه الخطط فعلًا على وقف إنتاج أجيالٍ مقاومة؟!