يقدم المخرج أمير فخر الدين في فيلمه "الغريب" صورًا فوتوغرافية متقنة التفاصيل، تمر الواحدة تلو الأخرى بهدوء وبطء، معززة بموسيقى تصويرية جميلة؛ تأخذ ما تحتاج من مساحة على شاشة العرض، وتنسج معًا مجموعة حكايات تتخذ لها من "عدنان" ضحية. فعدنان بطل مهزوم، غير قادر على التحكم في مصيره، يسير دولاب الحياه وهو فيه، أيامه ولياليه ما هي إلا ردود أفعال على ما يحدث.
تبدأ حرب كينونة عدنان ووجوده من السؤال الفلسفي حول علاقتنا بالأهل، هل نولد لنكون ذوات مستقلة أم نولد لنغذي غرور من ولدونا، فنطيعهم ونسعى دون مُساءلة الى إرضائهم، نهابهم ونخشى عصيانهم. إذا رضوا عنا كافؤونا، وإذا أغضبناهم عاقبونا، وإذا رددناهم خائبي الأمل قطعوا أمامنا بعض سبل الخلاص في الحياة. يؤلمنا كل ذلك، لكننا نعيد اجترار التجربة حينما نصبح والدين!
ليس حرمان عدنان من ورثة أبيه ما يجعله غريبًا، ليس فشلة في الحصول على شهادة الطب، ليس في شربه المستمر للكحول هربًا من الواقع، ليس باختياره السكن في الحقل بعيدًا عن زوجته وابنته، وليس البرد الذي يفتك بشجرات التفاح فيتلف الثمر، بس هي كلها مجتمعة وعدنان يقف أمامها كثور منهك وسط ساحة المصارعة ، لا يدري أي السهام ستصيب مقتله وتنهي معاناة إلى الأبد.
لم أكن أرغب بالاستماع الى خطاب عدنان الذي كسر الحوارات القصيرة وجاء طويلا يعبّر عن آلاف الجولانيين كاشفًا الكثير مما كان يتوجب أن يبقى طي الكتمان محكومًا لتفسيرات المشاهد، دافعًا اياه للبحث والتحليل وزج نفسه في اختيار المعاني. كان يكفيني أن استشعر الرسالة من خلال مشاهد تقدم لي ما أحتاج من معرفة حول حالة الوجودية والإنسانية والسياسية لأهالي الجولان. هؤلاء الذي يعيشون على أرضهم تحت احتلال لا يواجه يوميًا بالدم، لكن هذا الدم ممزوج بالحليب، أي بالحياة منذ الولادة حتى الآن، ليس دمًا بمعنى القتال بل شائبة تعكر صفو الحياة وتطورها الطبيعي، والانتماء الفطري للأم سوريا.
عدنان، ككلبه ذي الثلاث أرجل، يمكنه السير لكنه يفتقد القاعدة الصلبة حين يحتاج الثبات على الارض، وكذلك هو الحال لمن يعيشون حياتهم يزرعون ويأكلون من ثمر مزروعاتهم، يولدون ويلدون، لكن حنينهم أبدًا الى المكان الذي تم اقتطاعهم منه. وكما تهش الكلاب هذا الكلب وتستقوي عليه، ينهش الاحتلال أراضي الجولان وثرواته، ينهش تطور الحياة الطبيعي للناس، يحد من امكانياتهم في العمل والنماء؛ لكن.. كما تنتظر "ليلى" عودة أبيها عدنان الى البيت، هناك وطن بانتظار عودة سكان القرى الخمس إليه.
لعل حالة التشتت انعكست بكامل قوتها في هذا الفيلم. ففيه اجتمعت قصص عديدة يربط بين محاورها شخص واحد، لكنها تشتت بعضًا من تعاطفنا او استيعابنا العميق للبعد الإنساني الكامن في كل منها. فهناك قصة علاقة عدنان الشائكة مع والده، وقصة ابتعاده عن زوجته، وقصة اقتراح الزوجة للهجرة ورفضه، وقصة ابنة تعكس جيلًا جديدًا يراقب ما يحدث. هناك قصة البرد يغلف المكان ويعرقل بعضًا من أوجه الحياة المصيرية، يتلف المحصول، ويرفع منسوب الحاجة الى نار الحطب ونار الكحول. يضاف الى كل هذا قصة غريب آخر يدخل حياة عدنان ولا يغادرها الا ميتًا مجهولًا.
يرى عدنان في احدى جولاته بمحاذاة الشريط الحدودي مصابًا، فيغامر لانقاذه. يحمل على كتفيه قصة غريب ثانٍ غير نفسه، يعطيه ما يستطيع من دفء وعون، يشاركه بعضًا من ابتساماته التي لا تطول، ويحمل عنه ثقل حكايته العائلية التي ألزمته بالعودة العكسية - العودة من الوطن الاكبر الى الوطن الاصغر، قادمًا من سوريًا يبحث الغريب عن بيت جده في قرية مهدمه، وبموته تصبح هذه الرغبة واجبًا على عدنان الذي يلبي النداء.
موت الغريب قدّم للإطار بعدًا إضافيًا هامًا، في علاقة الجولانيين مع يمكن ان يفد اليهم من الوطن، في التخبط الناتج من الأزمة التي تعيشها بلادهم، وحاجتهم للبطل.
"ان التفاحة التي تنمو في غير تربتها يتغيّر طعمها" لعل هذا موقف واضح من المخرج تجاه قضية الانتماء والشعور العام بالغربة، لكن المأخذ على الفيلم ومخرجه تصويره لعلاقة مركبة مع الاحتلال، فما من شك أن الاحتلال الصامت للجولان مهما بلغ صمته لا يمكن ان يفضي الى هذه الحال من سعة صدر جندي يستدفئ بحديد سلاحه المضموم الى صدره! لذا فإن المشاهد التي تدور فيها النقاشات بين الجولانيين وحنود الاحتلال شيء من النعومة التي تبدو كتفاحة زرعت في غير تربتها!
جميل هذا الفيلم في أسلوب صناعته البصري، جميل في اختياراته للأماكن واللقطات، يلين ويقسو على بطله المثقل بالخيبات، حالهُ تشبه حالنا نحن الذين نعيش حالة انتظار لشيء لا نعرف مكنونه، إرادتنا محاطة بأسلاك شائكة، وبوابات الهروب المفتوحة أمامنا أضيق من رغبتنا بالثبات. نصبح أبطالًا للحظة ثم نعود الى خيمة اللجوء – صدر أم او جدران بيت أو حضن حبيب او صلاة أو رسالة نورثها للاحقين بنا قائلين لهم أن هذا الوضع المؤقت لن يدوم.