المُطاردة في السّينما.. سرديات فلسطين عن أبطالها
سماح بصول

ليس الأبطال حكرًا على هوليوود، فللشعوب سردياتها عن الأبطال ومفهوم البطولة، ولفلسطين نكهة خاصّة في نسج الحكايات وانتقاء مفردات التنكّر والتخفيّ والمراوغة، ولأبطالها سماتهم ولون بشرتهم واختلاف لهجاتهم واجتماع رؤياهم وهدفهم، بطولتهم تبدأ وتنتهي في معركة صمود متشعبة الجبهات، يطارد الشرير أجسادهم وأفكارهم وثقافتهم، ماضيهم ومستقبلهم. في مخيلتنا الجمعيّة ووجداننا صورة بطل مقاوم، قد تكون بطولته في تفاصيل الصدام المباشر مع عدوه، وقد تكون حالة مواجهة مع ما يجسّده الاحتلال، وقد تكون في قدرته التحلي بالصبر وكتمان السر وسط حاضنة شعبية، أو في إيمانه المطلق بالتحرّر والذي يدفعه إلى اتخاذ اللامكان مسكنًا وملاذًا من عين العدو ليتحوّل إلى مُطارد يسجل قصة نضال تكاد أحيانًا أن تكون أسطورية.

عرف التاريخ الفلسطيني قصص مُطاردة متنوعة، وهج إحداها – رغم قصر مدتها – لا يزال حاضرًا، يبعث شعورًا بنصر عميق في نفوسنا. فالستّة المتحررون من سجن جلبوع ومطاردتهم على مدار بضعة أيام أعادت للأذهان قصص بطولة نجمُها المُطارَد.

على مدى ذاكرتنا القصير، سطّرت قصة وسام الرفيدي تاريخًا فريدًا لقدرة التخفي مدتها تسع سنوات حتى اعتقاله، كما غاب المقاوم ثائر حماد منفّذ عملية "عيون الحرامية" الفريدة عن العيون سنتين ونصف حتى اعتقاله، وزكريا الزبيدي الذي لا يزال مُطاردًا حتى اليوم في أسره، والشهيد باسل الأعرج الذي كان مُطارد الفكر والجسد، من أبناء جلدته كما العدو.

خلّد هؤلاء المُطارَدون تجربتهم بالكتابة، فكتب حمّاد رواية "إنار النار"، وكتب الرفيدي رواية "الأقانيم الثلاثة"، وكذا فعل زكريا الزبيدي حين كتب رسالة ماجستير بعنوان "الصياد والتنين". أما الشهيد باسل الأعرج فقد غاب تاركًا وراءه نصًا يتيمًا بعنوان "أحكي لكم"، فيه وصيته وسطرين اختصر فيهما تجربة مطاردته المضجرّة بالحريّة والحق. علّمتنا النصوص شكل ومعنى المُطاردة، عرفنا تفاصيلها من خلال اعترافات أصحابها للورق، واختبرنا فيض المشاعر الإنسانية الوطنية الصادقة من الكلمات المختارة.

 

كالأدب؛ طرقت السّينما الفلسطينيّة أيضًا باب المُطاردة، فعبرّت عنها بقصص اختلف ابطالها واتفق صانعوها على مكانة المُطارد بين شعبه وحاضنته الاجتماعية، وأوجدوا للحب مكانًا في معظمها، كما أكدّوا من خلال التفاصيل المباشرة وغير المباشرة أنها ثورة حتى النصر!

"المُطاردة هي ردّة فعلٍ ثوريّةٍ واعيّةٍ على واقعٍ مرفوضٍ" – يقول زكريا الزبيدي، والسّينما الفلسطينيّة لا تمثل دورها فقط في التعبير عن رفضها للواقع السياسيّ وعن حالة العلاقة الطبيعيّة ما بين القصّة السّينمائية والواقع المُعاش والانتماء للرواية الوطنيّة، بل هي جزء من الحالة الثوريّة، ولها مكانتها في تشكّل الوعيّ تجاه الواقع وتعزيز رفضه. بل أكثر من ذلك؛ فالسّينما الفلسطينيّة مُطاردة بذاتها، فهي السّلاح البصريّ الذي يصطف إلى جانب أسلحة مقاومة أخرى، تحمل الهمّ الجمعي وبه تذكّر المُشاهدين أينما كانوا بعدالة القضيّة، تنتصر للروايّة التاريخيّة لتكون بذلك في مرمى قناصة الآخر الذي يلاحق مضامينها محاولًا اسقاطها من على شاشات العرض. وهي مُطاردة كونها غير مستقلة وخاضعة للتمويل الخارجي، فتكون بذلك في حالة كرّ وفرّ متواصلين لتصمد. وهي كذلك مُطاردة من خلال عدم القدرة على تعقيمها من صور الاحتلال في الكادر.

بين النصوص التي خطها المُطاردون والسيناريوهات السينمائيّة علاقة عضوية. تتكرر بعض المفردات فيهما وتبدو بعض المشاهد مألوفة، كل هذا نابع من أصالة التجربة وحالة الألفة ما بين صانع الفيلم وسيرة شعبه. فليس غريبًا أن تتم المُطاردة في مناطق ريفية، وأن يتعاون الأهالي للتغطية على المُطارد، وأن تكون شيفرات التخفي مستلهمة من الثقافة الشعبية. أما الحب؛ فهو حاضر هناك بكامل جماله وتعقيداته الاجتماعيّة المألوفة.

 

بين مُطاردة الروح ومُطاردة الفكر

قد نجد في الأفلام بضع أشكالٍ لمفهوم المُطاردة، فهناك مُطاردة الحياة اليوميّة، ومُطاردة الفكرة، ومُطاردة المُقاوم. هي حالة يقوم فيها العدو بمُطاردة الفلسطينيّ، احيانا تكون المُطاردة بشكلها الأساسي، جنود يطاردون فلسطينيًا عدوًا على الأقدام، ولم يقع نظري حتى اليوم على مطاردة بين سيارة فلسطينية وجيب عسكري؛ وقد تكون المُطاردة تنغيصًا على سيرورة الحياة الطبيعيّة بحضور الجنود  إلى حيّ ما أو بيت ما والعبث بسلامه المؤقت؛ وقد تكن المُطاردة عبارة عن شعور نابع من حقيقة وجود الاحتلال ولو لم نرهم على الشاشة، فكأننا جميعًا في تلك الخانة.

 

نماذج المُطاردة في السّينما الروائيّة

المقاوم المسلّح في فيلم "لمّا شفتك" لمخرجته آن ماري جاسر  هو فلسطيني يعيش على الأرض الأردنية، لكنه مُطارد اختار أن يسكن الجبال. ولم يكن السيناريو بحاجة إلى التعمّق في التفصيل ليشرح للمشاهد حتميّة هذا الخيار، وكيف يتطلّب فعل المقاومة حاجة للتخفي والتدرّب بعيدًا عن عيون الناس، فالفترة الزمنيّة التي تدور خلالها أحداث الفيلم كفيلة بتيسير التفاصيل الغائبة.

أما في فيلم "عمر" للمخرج هاني أبو أسعد فالمُطارد يتنقل بين الأزقة والبيوت معتمدًا حركات المراوغة – يكاد بعضها أن يكون بهلوانيًا - وقد يُفهم ضمنًا أن المُطارد هنا يحظى بحاضنة شعبية كونه لا يخشى اعتلاء أسطح البيوت ودخول بعضها دون أن تشي به صرخة امرأة متفاجئة أو بكاء طفل مصدوم.

يؤكد هذا حالة التماهي والحرص على سلامة المُطارد من بيئته، تُعلَن المسؤولية عن سلامة المُطارد بلا كلمات فتتم حمايته من خلال توفير المأوى، أو المأكل، أو إنكار رؤيته عند الاستجواب. وقد سجل التاريخ حكايات أشبه بالأساطير تتشابه مع رواية السينما، ففي فيلم "فلسطين 87 " لمخرجه بلال الخطيب، تتجسّد حالة تضامن خُرافيّة، عرفناها خلال الانتفاضة الأولى واختلفت بعض تفاصيلها، فإيواء المُطاردين داخل البيوت وكأنهم من أفراده هي عملية بطولية يراهن فيها صاحب البيت على سلامته. ففي الفيلم؛ الشاب الذي تحوّل إلى مُطارد بين الحواكير الصغيرة والشوارع الضيّقة دون نيّة له بذلك، يعيش حالة عظيمة من الاحتواء، فتختار صاحبة بيت أوى إليه مُثقلًا بالمفاجأة من وجود جنودٍ في محيطه، أن تُدخله الحمام فيما تستحم حفيدتها، فيتحوّل الحمّام إلى منصة وتُنسج هناك مسرحيّة تسخر من المحتل وجنوده. تتّفق هذه الصورة تمامًا مع ما روى الزبيدي حين يقول "القرى ومناطق الريف هي الأكثر أمنا، إذ تسهل رصد دخول قوات العدو، كما أن النسيج الاجتماعي فيها أكثر ترابطًا".

في الواقع، لا تخلو حالة المُطاردة من الحب، وقد خصّ وسام الرفيدي الحب والمرأة بثلث روايته التي حملت اسم "الأقانيم الثلاثة" وهي سرد لسيرته الشخصية بطلها "كنعان"، وفيها للمرأة مكان ومكانة تمامًا كما في فيلم "فلسطين 87"، فكتب وسام الرفيدي في الأقنوم الثالث "بدون حب مجنون لا مهرب من قلق دائم" وبذا تفوق الحب على الخوف وتفوقت المرأة الفلسطينيّة على كل مركبات الاحتلال وعتاده وعدّته. إلى الجانب المرأة كعنوان الحب، تظهر في أفلام المُطاردة – كما الواقع- المرأة شريكة النضال، نرى هذا المجتمع الفلسطيني المحافظ وهو يخلع عن نفسه صفة المحافظة أملًا بقيّم أكثر سموًا، فتختار الجدة إيواء الرجل الغريب في بيتها، وتزج به إلى الحمّام مع حفيدتها، فيما تقوم الحفيدة- الجيل الثالث للصمود – بالتعامل معه وفق سيناريو مُرتجل لا ينجح الاحتلال وجنوده بكشف سرّه، وهذا يتفق مع ما كتب الزبيدي في شهادته عن مطاردته "اقتحمت المنزل مسنودًا بمن أصروا على أن يكونوا إلى جانبي لتغطيتي من استهداف القناص".

 

أما في فيلم "عَ البحر" لوسام الجعفري، فنعيش مع البطلة حكايتين بالتوازي، أولها حين تصّر التغلب على حصار كورونا حاصلة على مكونات لصنع كعكة لزوجها المُطارد في ذكرى ميلاده، وثانيها، حين تكسر حصار البُعد وتلتقي الزوج المُطارد لتحتفل معه. إن صورة المرأة التي تعيش حالة الانتظار ليست غريبة على حياة المجتمع اليوميّة، ولكنها في حالة المُطاردة تكون أكثر قسوة وأقل أملًا باللقاء. وعن هذا يكتب الزبيدي في رسالته "على مدار أعوام من المُطاردة كلها كان لقائي بشريكة حياتي محدودًا، وقد عاشت زوجتي معي لحظات الخوف والرعب". أما الأسير ثائر حمّاد فقال في شهادته بدايتة الأسر "حلمت بخطيبتي، وثاني يوم صفنت وما تخيلت أنه ما رح أشوف السماء من سلواد مرة ثانية، قررت أفسخ خطبتي وأجبرت خطيبتي أفسخ هالخطبة".  لا نعرف الكثير عن المُطارد في فيلم "عَ البحر" لكن صياغة هذا العمل تتيح لنا معرفة تفاصيل نابعة من حقيقة ارتباط الانسان الفلسطيني بالحكاية، فهو يملك التفاصيل بمخيلته وقلبه، ومعرفته لها تتيح لخياله أن يكون شريكًا في صناعة صورة البطل الذي ينجح في لقاء زوجته في لحظة إنسانية فريدة، ويعود سالمًا إلى مأمنه وكأنه بإطفاء الشمعة يولد من جديد.

 

المُطاردة في السّينما الوثائقية

قد تبدو للوهلة الأولى أن حبكة المُطاردة في الفيلم الروائي تحظى بمساحات واسعة من الخيال والفانتازيا، لكن الواقع يظهر أكثر  قوّة من الخيال حين تتخذ المُطاردة شكلًا كوميديًا ساخرًا كما في فيلم "المطلوبون الـ 18" لمخرجه عامر الشوملي، هناك لا تُطارِد قوات الاحتلال مقاومين ولا البقرات الـ 18، بل تطارد روح الجماعة، وفكرة العيش المُستقل عن الاحتلال ومنتجاته الغذائيّة. يُكرر هذا العمل ويؤكد فكرة النسيج الاجتماعي وترابطه وضرورته للوقوف في خط المواجهة.

في وثائقي "سائقو الشيطان" لمخرجيهّ محمد أبو غيث ودانييل كارسينتي، نرى حالة المُطاردة والملاحقة اليومية للقمة العيش وحريّة الحركة. فالفيلم يحكي قصة المهرّبين، وهم سائقيّن يقومان بنقل العمّال الفلسطينيين إلى الداخل الفلسطيني المحتل للعمل دون تصاريح. على امتداد مساحات مكشوفة معرّضة للخطر يعيش السائق والعمّال حالة مّطاردة اضافيّة قد تُفقد المُطارَد حياته، فسلاحه الوحيد هو اصراره على البقاء وتحدي المنظومة العسكرية والسياسية التي تقيد حركته وحرّيته وحقه في العمل والكرامة. يظهر الفيلم تفوقًا لمعرفة الفلسطيني بالأرض وجغرافيتها، يعرف كيف يناورها ويتغلب على عقباتها، وهذا ضروري للمطارَد ويذكرنا بقصة ثائر حمّاد الذي اختار لعمليته موقعًا يحيّر عدوه، فجغرافية المكان أسعفته، ولولا معرفته لها كابن المكان لما نجح في انهاء عمليته والعودة سالما فيما استغرق الاحتلال سنتان ونصف للوصل اليه، فيكتب في شهادته "سحبت حالي ونزلت عن الجبل متسلل من جلجولية، ودخلت على سلواد وفتت على البيت وتحممت وحطيت راسي ونمت. وكان صعب عليهم يلحقوني لأنه مليان شجر وصخر والأرض وعرة".

 

وفي الأرض الوعرة المعطاء تجوب كاميرا جمانة مناع وفيلمها "اليد الخضراء" حيث تطارد الدوريات الخضراء الاسرائيليّة قاطفي الزعتر والعكوب والعلت والخبيزة واللوف وغيرها من خيرات الأرض. تترنّح المُطاردة في هذه القصة السّينمائية ما بين المُطاردة الفعلية للدوريات وخلق الشعور بالمُلاحقة. يدرس أصحاب الأرض خطواتهم ويجيد معظمهم النفاد من الاخطارات التي تحوّل الأرض من مصدر حياة ومعيشة إلى مصدر قلق. في بعض مشاهد الفيلم تتنكر الكاميرا بهيئة مُطارَد، وتراقب من بعيد سيارات الدورية، لتمنح الرائي شعور المُلاحَق، ولتحوّل سيارات الدورية الخضراء إلى ملاحَقة أيضًا، تنتصر عليه اليد الفلسطينيّة أحيانا وتخضع لمحاكمته أحيانا أخرى، محاكمات اختارت المخرجة تصويرها بهزليّة تَخلص إلى أن من يأكل من الأرض يملكها.

 

إن ما أُحب في الأفلام التي تطرح قضيّة المُطاردة – ولو بأبسط أشكالها- أنها تخلّد قصص بطولات حصريّة لنا، لا ينافسها أسطول مارڤيل أو غيره، فهي لا تنبع من رغبة كرغبة الغربيّ الأبيض إلهاء نفسه في رسم حلم إنقاذ البشريّة، بل هي وليدة الحالة المُعاشة، تكرّس فكرة المقاومة والانتصار كفطرة. يحوّل العمل السينمائيّ الفلسطينيّ وتكتيك التمويه والاختباء والتخفي عن مرمى بصر العدو صانع السّينما إلى شريكٍ للمُطارد في غريزة البقاء والدفاع عن النفس، فيمًد صانع الفيلم أبطاله بما يحتاجون من حواراتٍ تتّسم بالحصانة النفسيّة، والإصرار والثبات، مزيّنة بتحركات للكاميرا وموسيقى وإضاءة تشع قوّة. إن النظر إلى أفلام المطاردين الفلسطينيّة - حيث تتكرر مشاهد التغلّب على الاحتلال والتفوق عليه-  تقدّم صورة واضحة للصمود الذي لن يخبو. كما ان إظهار العدو بصورة ساخرة نابعة من الرغبة في إظهاره ضعيفًا أملًا في أن يخلق ذلك لحظة سعادة داخليّة لمن يقفون مناصرين للبطل، وربما حالة من النقاش حول موازين القوى التي تقف على طرفها الأول آليات عسكرية وأعداد من المُخططين والمُحللين والعساكر، وعلى طرفها الآخر أمل بالتحرر وبغدٍ أفضل. لا يمكن لصانع العمل الفلسطيني إلا أن يترك وراء عمله السينمائي خيطًا من الضوء، ورفع المعنويات، وإحباط أي شعور بالخذلان، والتبشير بأفق الندّية وإيمان حتميّ يتفق مع جملة "نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت" – قالها المُطارد العربيّ الليبيّ عمر المختار.

 

مصادر:

الأعرج، باسل ( 2018) "وجدت أجوبتي، هكذا تكلّم الشهيد باسل الأعرج"، مجموعة مقالات. دار رئبال، القدس.

الرفيدي، وسام (1998) "الأقانيم الثلاثة"، رواية. مركز الزهراء للدراسات والأبحاث، القدس.

الزبيدي، زكريا (2021) "الصياد والتنين، المطاردة في التجربة الفلسطينية"، رسالة ماجستير. جامعة بير زيت، رام الله.

حمّاد، ثائر (2016) "إوار النار، قصة بطل عملية عيون الحرامية"، رواية. نادي الأسير الفلسطيني، رام الله.

جميع الحقوق محفوظة © 2024