مدّ نور يدهُ عميقًا في الجُرح، فغابت ذراعه أولًا ثم غاب صوته، تبعهما نَفَسه ثم جسده. مدّ يده في جرح كل واحدة من الشخصيات المحيطة به، فأخرج من جُحر روحها وقلبها وعقلها المُعتم كمًا هائلًا من قيح المشاعر المكبوتة، والأكاذيب، والخوف. تسرّب هذا النور إلى دواخل الشخصيات فأضاء مخازن النفسيات الحالكة، ودون أن يدري غيّر مصيره ومصيرها إلى الأبد.
كم علينا أن نتمتع بقدرة التبصير كي نفهم إشارة الراوي في الأسطر الستّ الأولى بأن هذا الطفل سيكون حقًا جزءًا عضويًا من الأرض الشاسعة التي تبرز على طولها كتل ترابية بنية داكنة مغطاة بشواهد رخامية وضعت بترتيب ودقة.
من سيتذكّر هذه الإشارة بعد مائتين وخمس وخمسين صفحة، هي طول حياة روايّة "سبعُ رسائل إلى أم كلثوم"![1]
***
على ذات المنضدة، يموت المؤلف[2] وتولد الرواية، تخرج من رحم تعاركت فيه التجارب الأدبية والشخصية والنفسية، وتزاحمت فيه الأسطر والفقرات التي تخشى أن تشطب. في تلك اللحظة الفارقة ما بين الحدثين الجللين، وقبل أن يرسم الشدّة فوق الميم في كلمة تمّت، يقف الراوي العارف بالتفاصيل على تلّة البلّوطة، ينظر إلى الأحداث المترامية على المساحة الشاسعة بين أعالي ميرون وجبال نابلس ليتأكد من مخالفة الأحداث لكل الوصايا، فما حياة الشخصية لولا متعة الخطأ، دعها تكذب، وتقتل، وتشتهي آخر، وتسرق، وتشهد زورًا، وتحلف باسم الله بالباطل.
يحوم طيف الموت فوق كلمات الحكاية، وفوق المنزل الراقد بهدوء وسلام بجانب تلّة البلّوطة، فمن يرقد بهدوء وسلام سوى هؤلاء اللذين فارقناهم؟ أما الرسائل إلى أم كلثوم فما هي سوى مهرب تعالج فيه النفس نفسها بالتذكّر والحنين، تحاول الكلمات التي حفرت في الرسائل أن تخفف من ألم نكبة فقدان صغارٍ خرجوا من أرحامنا، كانوا ملاذًا وبيتًا وحضنًا بحجم وطن.
أنتَ نور العالم
أرى في هذه الحكاية سيرة ذاتيّة قصيرة لم تتعد السنوات التسع من العمر، وكل ما يحيط بها من تفاصيل يرتبط بها بشكلٍ أو بآخر، هذا النور الطفل المشاكس الشقي محورًا يربط خيوطًا متشابكة من الأحداث عمادها أفعاله الصغيرة، يرسم صور الحياة في بقعة فلسطينيّة نائية دون أن يدري، تتبعوا أفعال هذا الطفل، فإن كل ما يفعل شرارة تفجّر فعلًا أكبر. هو الحقيقي الذي يرى العالم من خلال التساؤلات والتحدي والعناد والرفض، هو المُحب الذي يعبّر عن حبه بالضحك والركض والحركة، هو الصادق حين يعرف بفطرته كيف تترتب الأولويات، هو الإبن الذي يعرف متى يتكوّر عائدًا إلى الرحم، مانحًا الدفء لجوف الأم الذي جمّده غياب الحب والشوق واللهفة. هو الفلسطينيّ الذي تتكوّن هويته بشعور التضامن مع صورة انتفاضة مرت خلال نشرة أخبار.
تشير الكلمات المنتقاة في أكثر من موضع إلى موتٍ مقترب، ولا تسعفنا القراءة العابرة للنيّل من محاولات الراوي اختبار ذكاءنا. علينا أن نقرأ ثانية وثالثة كي نلتقط الإشارات ونحل اللغز، فهو يراوغنا بتفاصيل تباعد ما بيننا وبين بطل الحكاية وهو كرمز يصلح أن يكون كل واحدة وواحد فينا. دعي نور يسأل، دعيه يمرح، دعيه يغامر ويرتكب ما شاء من الحماقات يكفيه كل من سيحاولون اسكاته في الحياة حتى موته. حضر وسيغيب تاركًا من يحيطونه يعيشون على حافة الحياة طوال الرواية!
في سرده حكاية تنطلق من تلّة البلّوطة حيث شُيّد بيت مصطفى وهاجر، يُقدّم الراوي ابنهما نور على أخاه يزن في معظم الفرص رغم أنه الأصغر سنًا، وليس الراوي وحيدًا من يدفع بنور للمقدمة، فهاجر تقضي معه وقتًا دون طفلها الآخر، تتآمر وإياه على أكل علبة الملفوف المطبوخ، وتشاركه لعق بوظة الشوكولاطة، وتغذي تمردّه، وتعزز حقه بحفظ كرامته الصغيرة، وتنهش بكف يدها وجه من يعتدي عليه، وتحضنه وتدلّله وتغفر خطاياه، هل كانت غريزتها تستبق التاريخ فتختلق فرصًا لوداعه؟ أم أنها كانت تحاول أن تغفر لنفسها خطأ مقتربًا تعجز فيه عن حماية أولادها وهم على بُعد غرفةٍ منها؟ أم كانت بذلك تعوّضه ونفسها عن البوح : أنا بحب نور أكتر واحد بالعالم؟
كأشرعة سفينة معطلة لا تبحر إلى أي مكان، تعيش هاجر ومصطفى حياة زوجية رتيبة تقنية خالية من انفعالات الحُب، كالمياة الراكدة مليانة أمراض، يعيش الزوجان حالة متواصلة من الكذب المبطّن، كلاهما يعرف لكنهما يتفاديان الاعتراف. مصطفى كالخلد الأعمى الذي يبحث عن قوت أولاده، بشتغل كل النهار زي الكلب في محجر ورثه عن والده، جعل قلبه مغلفًا بالكثير من طبقات الغبار الذي تصلّب وحجب عن قلبه قدرته وحاجته للتعبير عن الدفء والتلذذ باكتمال جمال زوجته قلبًا وقالبًا. أمًا هاجر؛ فتعيش في جلباب اسمها، فهو فعل قام بها غيرها، هاجر جمال تاركًا إياها وراءه مهجورة مكسورة فريسة للنميمة ولشر لا بد منه.
***
قبر في ظل البلّوطة
أنتِ لم ترزقي بأولاد يا سومة، كتبت هاجر في رسالتها لأم كلثوم، أم الجميع التي اتخذت مكانًا في الرواية كأم المخلّص، تلتجئ إليها هاجر شاكية كانت أم شاكرة، تلفها تلك الأم بالكثير من الرقّة والتفهم والحنان، لا تعاتبها ولا تصدر عليها أحكامًا، تتقبلها كما هي وتبقى هالتها دائمة الحضور في معبد هاجر. وكذلك لم ترزق المعلمة روز بالأولاد، ولكن لهاجر إثنان، ينقبض قلب هاجر في كل مرة يذهبان وحدهما في هذه الجولة، كان من الأجدر بقلبك يا هاجر أن ينقبض في كل مرّة يكونان فيها وحدهما، في جولة أو دونها، لأن الغيرة التي نمت في نظرات يزن وشخصيته وتصرفاته، غيرة الإبن التي غذّاها غضب الأب فأصابت رابط الدم وأزهقت الروح، غيرة تعدّت حدود الطفولة وكعرت سنسلة هذا البيت وزادت اضطرابه.
لم تنجح الانتفاضة، ولا احتلال الفراكش لأرض قديتا ودلّاثة، ولا وفاة أبا جمال، ولا اعتقال الشاباك لوجدي في إبعاد شبح الموت، ارتعش جسم هاجر وهي تحاول أن تتخيل أحد ولديها ميتًا، مسكينة! لم تكن تدرك أن الكاتب حاول بهذه الجملة زجها في بروڤا لحدث جلل ستعيشه في أواخر صفحات الرواية عندما رفض البرد حقًا إخلاء المكان لبراعم الربيع الأولى وظل جاثمًا بعتمة غيومه الرمادية فوق صدر البيت وتلّة البلّوطة.
لم تكن تلّة البلّوطة مكانًا مجردًا من الأهمية، في الطريق الصاعد إليها سار موكب المشيعين، هاجر ويزن ونور ورابعهم كلبهم، ثم سار الموكب نزولًا بلا كلبهم. دفع الراوي بنور ليبيت في بيت الكلب وكأنه يشي بوجود قبر صغير شاهده البلّوطة، لكننا حين ضاع نور لم نلتفت لهذه الإشارة، لم نستوعبها، كانت قلوبنا مثقلة بأذى غضب مصطفى الذي دفع يزن وريكس ثمنه، وكنا قلقين على مصير نور، فلم نكن نرغب أن نستمع للراوي وهو يحدثنا عن جسدٍ صغير ممدد على حافة مجرى الوادي، فقد رأينا هذه الصورة تتكرر على شواطئ هجرة الأطفال السوريين واكتفينا حسرة.
العشاء الأخير
نلمس الخيانة عندما يؤذينا أكثر الناس الذين نهبهم حُبنا غير المشروط وثقتنا، ليش خليتها تضربني انت أخوي الكبير.. وبكى كأنه سيسلّم الروح، كانت أولى الخيانات التي تعرّض لها نور، حينما لم يقوَ أخاه الأكبر على حمايته. كان هذا السؤال عظيمًا بحجم الروح التي لم تعد تجد لها مكانًا داخل الجسد وكادت تغادره.
على مائدة العشاء الأخير في تسلسل الرواية، اجتمعت العائلة لتناول طعامها المفضل بعد اجتهاد مصطفى ويزن في اعداد الحطب للمدفأة، لم يعّ مصطفى أن استمالة ابنه البكر إليه، وتربية شيطان الأنانية وحب السيطرة داخله، سيجعل علاقة الولديّن كقطعة خشب متينة تتفرّق مع كل ضربة بلطة. لم يتنبه مصطفى أنه أنكر نورًا ثلاثًا كما فعل بطرس، لم يلتفت إلى أنه خان عائلته المقدسة كيهوذا، وحينما ندم قام محاولًا الانتصار على ضعفه وخنوعه بملء سيارة التندر بشعور وطني ساعد انتفاضة الحجارة لكنه لم يقف أمام انتفاضة هاجر.
***
استعدت في أسطر الرواية مشاهد من حياتي الابتدائية، واستبدلت الشخصيات والأماكن بأسماء أكثر قربًا إلى قلبي، تذكرت زيارتي الأولى إلى بيت صديقتي أحلام وإعجابي ببيتهم الجميل الذي يزينه القرميد البني، وسرت في ذهني قافلة من سيارات السوبارو البيضاء والزرقاء التي راجت في البلدة، وغمرني حنين التردد الأسبوعي في صباح كل يوم جمعة على بيت جدّي. حاولت أن أكسي هاجر بتنورة صوفية كحلية اللون وبلوزة تغطي أعلى الرقبة كما اعتدت أن أرى أمي أيام الشتاء، حمّلتُ مصطفى حقيبة جلديّة سوداء اللون تفوح منها رائحة العجّة كتلك التي حملها أبي إلى عمله، خلتُ يزن ونور كأولاد حارتنا وهم يمرحون في واد عين القطعة يتربصون للضفادع ويقلّبون الحجارة بحثًا عن الأفاعي. وأخيرًا؛ اجتهدتُ ولم أفلح في تهميش صور معلماتي نوال وميمي ونعامة وباسمة وهنّ يضربن بعصيّهن البُنية. كم هي مؤلمة هذه الصور!
أغالب شعورًا بالعجر تجاه ما تعرضنا له من ضربٍ دون أن تكون لنا قدرة على التفكير بالرفض أو التحدي والثبات كما فعل نور، هذه الشخصية ذي الفطرة الطاغية، صاحب ضحكة – كما التكشيرة- تكاد تخرج من بين كلمات عذبة وعالية، لكن يبدو أن هذا العالم – كما هو طول الرواية- صغير على الأطفال، لا يتسّع لاحتواء شغفهم الحقيقي وأسئلتهم وتجاربهم التي لا تحتكم للمنطق ولا للقانون ولا للعيب.
جسد نور الخفيف الذي يمكن للريح أن تحمله بعيدًا وترتفع به نحو السماء، والذي يمكن للماء أن يجرفه بعيدًا نحو باطن الأرض التي تخرج منها مياه نبع العكروش، لتستبدل العذوبة بالعذوبة، وثورة المياه بثورة مخ طفل صغير عنيد أبى إلا أن يدحرج نفسه على طول حياته وعرضها مستمتعًا بكل ما فيها. لكن، لا مكان حقيقي للطفولة الصرف على وجه هذه الأرض. لذا تخرج الطفولة في رحلة و أهم إشي بالرحلة الزوادة ونور تزوّد بما يكفي من الحريّة والإرادة ليتابع رحلته في مكان آخر أكثر اتساعًا.
كم مرّة نبهنا الراوي بأن شيئًا ما خطيرًا يحدث هنا، ذلك المشهد حيث يحاول نور اسكات ريكس ينقلب عليه ليضعه مكان الكلب فيصبح فريسة لقبضة أخاه،كيف يمكن لهذه الكتلّة الثائرة من لحم ودم أن تخضع؟ أم أنها بعد أن فاضت ضوءًا جعل الأسرار والخبايا تطفو على وجوه أصحابها؛ آن الأوان لتنطفئ؟
[1] "سبع رسائل إلى أم كلثوم" رواية علاء حليحل، الصادرة عن دار الأهلية، 2023.
[2] "موت المؤلف" عنوان مقال حول العلاقة بين المؤلف وإنتاجه للناقد الأدبي الفرنسيّ رولان بارت.