تقديم
منذ بدء صناعة السّينما الإسرائيليّة ما بعد إعلان إقامة الدّولة، كان الجيّش – باعتباره أحد ركائز هذه الدّولة – موضوعًا مثيرًا لصانعي الأفلام الوثائقيّة الإسرائيليّة. فكما في كل صناعة سينما، يتنوّع تناول الموضوع ما بين التماهي مع وجود المؤسّسة العسكريّة والتعريف بها وبضرورة دعمها إلى حدّ التّرويج والدّعايّة، أو الاحتفاء بشخصيّاتها البارزة وبطولاتها العسكريّة ودورها في إقامة والحفاظ على الكيّان القوميّ، أو التشديد على قوّتها وعظمتها وتفوّقها، وضرورتها الحتميّة من أجل البقاء، يكون هذا بهدف مدّها بالمزيد من الشرعيّة وبالتالي زيادة الشعور بالواجب لدى المواطنين.
فيما بعد، ومع التأرجح بين حرب وأخرى على مختلف الجبهات مع الدول العربيّة، بدأت تظهر أفلامٌ من نوعٍ آخر يتمثّل في النظر بعيّن فاحصة إلى المعارك وتفاصيلها، وأداء الفاعلين فيها أينما أصابوا وأينما أخطؤوا، أو الاعتراف بالفقدان والهزيمة والخسائر، أو نقد قادة الجيّش ومن يقابلهم في الحكومة والأوامر الصادرة عن كِلا الطرفين خلال الحرب.
أما لاحقًا – في سنوات الثمانينات – فأصبح الجنديّ الإنسان هو محور الفيلم، وبدأت تظهر أصواتٌ ناقدة لنهج المنظومة العسكريّة تجاه الجنديّ والتباين بين المرحلتين ما قبل أداء الخدمة العسكريّة وبعدها. وقد أتت الانتفاضة الثانيّة وحرب لبنان الثانيّة والعدوان المتكرّر على غزّة، لخلق المزيد من التصاعد في حالة النقد، فتعزّزت مكانة الجنديّ وتجربته الشخصيّة وآرائه ومواقفه وآلامه وفقدانه، وولدت حالة غير مسبوقة من التساؤل حول ممارسات الجيّش في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة، كما عَلت أصواتٌ قليلة تنظر للفلسطينيّ القابع تحت الاحتلال كإنسان!
في هذا النص، قراءة وتوصيف لمجموعة من الأفلام الوثائقيّة الإسرائيليّة المندرجة في تعريفها تحت ثيمة الجيّش – وفق تعريفات منتدى السّينما الوثائقيّة - وعلى وجه الخصوص تلك الصادرة في الفترة الواقعة ما بين 2018 حتى 2022 كونها أنتجت حديثًا، وكذلك للتنوّع الكبير في مضامينها، وشهادتها على التغييرات المجتمعيّة في سياق الجيش. أستثني في هذه المراجعة فيلمًا وثائقيًا بيوجرافيًا واحدًا صدر في العام 2016، ويعود ذلك إلى احتوائه على حوارات ومونولوجات جديرة بالاهتمام، كونها تلّخص بضمير المتكلّم جزءًا من الاهتمام الذي يوليه الإسرائيليّون للجيّش وخدمته مقابل التفكير الجدّي بترك الخدمة.
يسعى النص إلى التعرّف على التحولات في المضامين والرسائل، الأبعاد الشخصيّة وإسقاطات إتاحة الأرشيف العسكريّ على محتوى الأفلام وشرعنة الخطاب النقديّ للمؤسّسة.
التقريب والتغريب، وقوّة التأثير
إن واحدة من جماليّات وقوّة السّينما هي قدرتها على تقريب كل قضيّة للمشاهد. لا يعني التقريب تماهيًا أو تأييدًا بالضرورة، لكن التأثير المتوقّع منه لا بد حاصل. قد يكون التأثير على صيغة إستعادة قضيّة ما مكانتها المتقدمّة في سلم الاهتمام الاجتماعيّ أو السياسيّ، أو في إثارة نزعاتٍ من تأييد أو انتقاد شخصيّات أو منظومات، أو زعزعة تفصيل ما في وعيّ أو ذاكرة جمعيّة، أو التشكيك في مواقف كانت يومًا متفّق عليها.
في التعاطي مع موضوع الجيّش – محراب قُدس أقداس مفهوم الأمن في المجتمع الإسرائيليّ – بدأ نقد المنظومة العسكريّة خارج الشاشات بعد حرب العام 1973، ثم انتقل إليها نتيجة العلاقة العضويّة بين السّينما والواقع. في السنوات 2018-2022 تبدّلت الحكومات والقوانين بشكل بارز، وتعاظم استهداف قطاع غزّة مقابل ازدياد التطبيع، وحدثت تغييرات بنيويّة في المجتمع الإسرائيليّ، وصار انتقاد العوام – صنّاع سينما أو الصحافيون أو الجمهور عبر منصّات التواصل الاجتماعيّ – للمنظومات السياسية والعسكريّة في تزايد.
بات واضحًا أن تغيّرًا بسيطًا طرأ على مكانة الخدمة العسكريّة في المجتمع الإسرائيليّ. يوضّح بحثٌ صادرٌ في العام 2021 عن المركز الإسرائيليّ للديمقراطية[1] أن نقد الجيّش وتراجع قيمة الخدمة العسكريّة من قِبل الأفراد في المجتمع الإسرائيليّ يعود إلى أربعة أسباب:
تدني الشّعور بالتهديد الخارجيّ بعد توقيع اتفاقيّات السلام مع الدول العربيّة.
نمو الاقتصاد والخطاب النيوليبرالي والتغييرات البنيويّة في السوق.
تعاظم خطاب المواطنة الإثنو- قوميّة، وتعاظم القيم اليهوديّة الدينيّة في الخطاب السياسيّ.
تحصيل الحقوق السّياسية والمدنيّة بمعزلٍ عن أداء الخدمة العسكريّة وخاصّة في أوساط اليهود المتدينين المتزمتين (الحريديم).
اعتمادًا على هذا؛ يمكن النظر إلى إسقاطات حرب الغفران 1973 (نصر أكتوبر) على المجتمع ونظرته للقيادات العسكريّة والسياسية مثالًا وربما انطلاقة لنقد المنظومة العسكريّة. ففي العام 1981 صدر فيلم الدراما الإسرائيليّ "النسر" (The Vulture) للمخرج ياكي يوشاع. وهو دراما تسخر من التحضيرات لإحياء اليوم المسمّى "يوم ذكرى ضحايا معارك إسرائيل". يصوّر الفيلم كيفيّة التعامل مع القتلى من الجنود كأرقام، وعن إعداد بروتوكولات الحزن والتذكّر، وكتالوچات الأنصاب التذكارية متعدّدة التصاميم والامكانيّات وتحوّلها إلى تجارة رابحة، فيما تتراجع المعاني الإنسانيّة والعاطفيّة للفقدان ولا يبقَ للجندي الميت من يبكيه.
عادت قضيّة بروتوكولات الثكل في العام 2017 من خلال الفيلم الدرامي "فوكستروت" للمخرج شموئيل معوز، وهو فيلم لاذع حاولت وزيرة الثقافة في حينه ميري ريچف منع عرضه، وفيه مشهد حضور ممثلي الجيّش إلى بيّت عائلةالجنديّالقتيل، ورغم أنالجنديّمات انتحارًا، تُبقي المؤسسة العسكريّة على سريان مفعول المظاهر المتّبعة للمواراة، فيأتي مندوبوها بهيئة رسميّة تقنيّة مصنّفة في الذهنية الإسرائيليّة كإعلان موت، حيث يحضر ممثلو الجيّش برفقة أخصائيّة نفسيّة يحملون بيدهم علم الدولة مطويًا والذي سيستخدم غطاءً للتابوت، ويقدمون للعائلة مرسومًا حول التصرفات المسموحة والممنوعة في حالة كهذه. صُوّر المشهد بطريقة وألوان وإضاءة تعكس برودًا صارخًا خاليًا من أي تعاطف مع العائلة أو الحدث.
تأتي السّينما لتشغل وظائف متعددة ضمن ثالوث من الحقب المضامينيّة ورد ذكره سابقًا، فمرّة تكون وسيطًا لجمع شمل المجتمع الإسرائيليّ وإخضاعه من جديد للإيمان بعماد الدولة – جيشها المنتشر على طول الحدود لحمايّة مواطنيها من أعدائهم الكُثر. ومرّة، تهز الأفلام الوثائقيّة الإسرائيليّة ركود الإجماع العام تجاه هذه المؤسّسة وتُحدث فوضى من السجالات قد تصل إلى حد سن قوانين تقيّد مضامين الأفلام المموّلة حكوميًا. ومرّة، تنبش في التاريخ ودور الجيّش فيه بدءًا من منظمات "الإيتسل" و "الليحي" و "الهچناة"، وتتعاطى مع تطوّر الحاضر، وتحاول النظر من خلال عدسة مكبّرة على التفاصيل الدقيقة وتحليلها وربما بث معنى مبطّن مغايّر لما تقوله الصورة المطبوعة في الذهنيّة الإسرائيليّة. هنا تجدر الإشارة إلى حالة التغريب التي تخلقها السّينما مقابل التقريب، فعلى الرغم من أن الإحصائيات من العام 2020 تشير إلى أن 64.1% من المُلزمين بأداء الخدمة العسكريّة من الرجال والنساء في إسرائيل أدّوا الخدمة[2]، إلّا أن بعض الأفلام الوثائقيّة الإسرائيليّة تأتي لاستعراض حياة الجنود أثناء هذه الفترة بصورة تخلق وهمًا بأن المجتمع الإسرائيليّ المدنيّ – الذي يستجيب معظمُه لأداء خدمة الاحتياط حتّى في فترات الهدوء - لا يعرف تفاصيلها، وبالتالي تبدو التصريحات بأفعال الجنود غريبة، وكل ما يصوّر فيها جديدًا يثير الدهشة والتساؤل والانفعال لدى المشاهد الذي تربّى أصلا في مجتمع يذوّت العسكرة، فتدور نقاشات حول أخلاقيات الجيش، ويتم أحيانًا تراشق الاتّهامات بين المؤيدين والمُعارضين لما جاء في الفيلم، وتعلو مصطلحات واتهامات تجاه صُنّاعه بالخيانة وتشويه صورة إسرائيل.
في مخزون الذاكرة الجمعيّة الإسرائيليّة أحداث مركزيّة تشكّل تاريخًا وذكرى مؤثريّن جدًا في صياغة مفاهيم المجتمع وطقوسه المتكرّرة، مثل المحرقة النازيّة، وهجرات اليهود إلى فلسطين، وقيام الدّولة، والحروب مع الدّول العربيّة، والصراع الفلسطينيّ- الإسرائيليّ.
في بعض الأفلام الوثائقيّة الإسرائيليّة، هناك مراجعة مُحدّثة لهذه الأحداث المفصلية تتّسم بالنظرة الناقدة التي تتعمّق في قراءة الأساليب والأنماط التي يتم من خلالها التعامل مع الأحداث مجتمعيًا وسياسيًا، وحتى في تاريخ السّينما الإسرائيليّة ذاتها وأفلام الحرب في سنوات الخمسينات، والسّينما السّياسية التي تطوّرت خلال سنوات الثمانينات. وسط هذا كله عليّنا الانتباه إلى المجتمع وتطوّره وإلى صنّاع الأفلام ومواقفهم المعبّر عنها من خلال الفيلم، وتضاد الآراء الظاهرة في الفيلم ومساحة كل رأي منها في زمن البثّ.
تظهر في بعض الأفلام، جهرًا أو إشارة مبطنّة، معارضة أيديولوجيّة للخطاب السائد في المجتمع الإسرائيليّ.
يتجسّد ذلك في بناء الشخصيّة في الفيلم وما تمثله داخل المادّة الفيلميّة، وفي كيفيّة تصوير اسقاطات الخطاب السائد على الممارسات اليوميّة – خلال أداء الخدمة العسكريّة وما بعدها - بالتالي كل شخصيّة في الفيلم بمركباتها المتنوعة تعكس شيئًا ما عن المجتمع، وتظهر لدينا بالتوازي قصة مجتمع وقصة شخصيّة، أحيانًا يكون هناك شرخ ما بين الموقف الشخصيّ المعارض وبين الواقع الذي يفرض على الأفراد التعامل مع الجيّش كقيمة عليا تحظى بالاجماع.
تخلق هذه الفجوات في المواقف والمعرفة والتجربة لدى صنّاع الأفلام حالة من الصراع الداخليّ الشخصيّ والمجتمعي، صراع بين الموضوعيّة (objective) – إذا صحّت تسميّتها كذلك – والشخصانيّة (subjective)، يظهر ذلك جليًا في أفلام: السيرة الذاتيّة للجنود المسرحين، أو الصدمة ما بعد الحرب، أو سياسات الجيّش الداخليّة، أو أثر الحرب الذي لا يُمحى.
على العكس من أفلام الحرب التي أُنتجت في إسرائيل في سنوات الخمسينات والستينات، حيث كان يتم اخفاء الإصابة الجسديّة للجنديّ والتّركيز على التضحيّة المقدّمة من أجل الوطن والمواطنين، بدأ في سنوات الثمانينات تحوّل في هذا الاتجاه وصار إظهار الجروح والندوب والجثث جزءًا من الخيارات البصريّة لصانع الفيلم وصل في بعض الأفلام إلى حدّ الفائض البصري لذات الفكرة. يترافق هذا مع ما كتب الباحث السينمائيّ يوسف راز نقلًا عن المخرج شموئيل ايمبرمان أنّ المنهجيّة العسكريّة الإسرائيليّة تربيالجنديّعلى مهمته الحتمية : قتل العدو، يليها فورًا تعزيز تذويتالجنديّلامكانية اصابته أو مقتله خلال الحرب.[3] هذا التذويت يجعلالجنديّالمصاب قادرًا وقابلًا ومُهيّئًا لحالة الاهتمام الوطنيّ وتمنحه كذلك تأهيلًا في أداء دور البطولة أمام الكاميرات.
بمسحٍ تاريخيّ أوليّ نرى أنّ أحد أهم نقاشات المجتمع الإسرائيليّ لم يعد حاضرًا في الأفلام الوثائقيّة التي تعالج موضوع الخدمة العسكريّة، وهو التعاطي مع التعدّدية وتقسيم الانتماءات شرقيين وغربيين، أو مواليد البلاد والقادمين الجُدد.
مع تقدّم سنوات الـ 2000، وبشكل خاص بعد حرب لبنان الثانيّة، بدأت القصص والتجارب الشّخصية تتغلّب على المشهد السّينمائي الوثائقيّ، وطفى على السطح موضوع الصدمة، وأثر الهجرة والاسّتيعاب على أداء الخدمة العسكريّة، ومحاولات المهاجرين والأقليّات التحوّل إلى جزءٍ من الكل الإسرائيليّ – أو الصهيونيّ في بعض الحالات – وكذلك الثكل والتّحقيق في المخفيّ داخل المنظومة وصار يغطي على مُركّب "الجماعة" ووحدة الصف، يكاد يغيب الجيّش ككولكتيف ويظهر مكانهالجنديّالفرد، ويصبح المشاهد للفيلم شاهدًا على إستعادة التاريخ وأحداثه أو ربما إعادة فهمه بآليات جديدة.
مواضيع أفلام الجيّش
تتفوّق وجه النظر والبحث العامودي والعلاقة الشخصية مع موضوع الخدمة العسكريّة في الأفلام الوثائقيّة الإسرائيليّة على جانر الاستقصاء والبحث الأفقي. يخلق هذا تنوعًا كبيرًا في القصص والأبطال والمواضيع الرئيسيّة والثانويّة للأفلام، إلا أنّه يمكن تقسيم ثيمة أفلام الجيّش – عمومًا، وبصورة خاصة في السنوات المطروحة هنا ما بين 2018 حتى 2022- إلى خمسة مواضيع رئيسيّة:
ما بعد الصدمة ( Post Trauma)
هي الأفلام التي تنظر في دواخل الجنود بعد تسريحهم من الخدمة، سواء بانتهاء خدمتهم رسميًا أو تسريح مبني على اعتبارهم ضحايا الأذى النفسيّ الناتج عن تجارب خاضوها خلال معركة ما.
يحتل مصطلح "الإنكار" مكانة مهمة في سيناريو هذه الأفلام. فجزءٌ من الأفلام الوثائقيّة الإسرائيليّة تتعامل مع الذكريات الصدماتية التي تم انكارها بعد العودة من المعركة، في معظم هذه الأفلام لا يتم الكشف عن وقائع الحرب وحقيقة التفاصيل والأشخاص الضالعين في كل حدث أو قصّة، إنّما في عملية التذكّر وتأثيرها علىالجنديّما بعد الحرب وخلع البزّة العسكريّة. يبرزالجنديّهنا كضحيّة، وقد تعلو هنا تساؤلات حول سرديات هذه الأفلام، وأسئلة حول الجدّية التي تتعامل بها المؤسسة العسكريّة مع الذين يعانون من بالـ "Post Trauma" وحالة الخِذلان الناتجة عن عدم توفّر الدعم الحقيقيّ الناجع، وكذلك التساؤل حول ضرورة الحرب ومستقبل الصراع مع العرب عمومًا ومع الفلسطينيين خصوصًا، أو حول أخلاقيات التعامل مع الطرف الأخر – العدو ومناقشة جريئة لمُسمى "الجيش الأكثر أخلاقيّة". كل هذه أفكار تتصارع في ذهن أبطال الفيلم والمخرج وقد تتسلل إلى عقول المشاهدين أيضًا وتخلق نقاشًا جماهيريًا حول الوضع القائم والواقع المُعاش والتأثير المُعاكس لاحتلال الأرض الذي يأخذ شكل احتلال النفسيات وخنقها بالذكريات السلبيّة.
في فيلمه " مخالف الحماية" ( Off Guard 2016) يعرض المخرج إلعاد دافيدوفيتش مقتطفات من واقع خدمته العسكريّة ومناهضته لبعض الواجبات فيها وتفكيره في عدم استكمالها. يأتي إلعاد من بلدة تعاونية تقع في منطقة وادي عارة، بلدته محاطة بالبلدات العربيّة. يصوّر إلعاد اللقاءات الأولى لمجندين جُدد مع الضباط وكيف يكون الدرس الأول قصيرًا واضح الهدف "قتل العدو والسيطرة على الأرض" يليه الدرس الثاني الذي يشجّع الجنديّ على اتخاذ القرارات بنفسه في الميدان وفق ما يراه مناسبًا ونحن نرى مدى خطورة ذلك فعليًا. في هذا الفيلم يحاول إلعاد مناقشة جنود آخرين حول جدوى الخدمة العسكريّة والحرب، فيلتقي من يرون في الخدمة واجبًا مُسقطًا عليهم ويكرر جمعهم مصطلح "لا مفر"، وآخرون يرونه واجبًا وطنيًا ويعتبرون أنفسهم جزءًا منه. يشارك إلعاد تجاربه مع صديقه العربيّ وهيب الذي يبدو مستمعًا غير متدخّل في موضوع يبدو حساسًا للغاية كرفض الخدمة العسكريّة. في الحوارات ما بين وهيب وإلعاد تبرز فكرة مجنونة - إنّ صح التعبير- تقضي بـ "تغيير المنظومة من الداخل" بحيث يعتبر كلاهما وجود إلعاد في الخدمة العسكريّة مفيدًا للفلسطينيين بسبب الأفكار اليساريّة التي يأتي بها إلى زملائه في الكتيبة، ويُمارسها على الأرض عند أداء مهامه على حواجز التفتيش!
خلال الصراع بين إلعاد ونفسه حول رفض الخدمة، يدير حوارًا مهمًا مع والديّه، حيث يؤكد والده على أن الأمن هو معبد إسرائيل ولا مكان فيه للفلسطينيين من حملة الجنسية الإسرائيليّة وبالتالي تقع المسؤوليّة على الأمن على عاتق الإسرائيليين وحدهم وعلى رأسها الجيش. بالمقابل، وخلال سؤاله حول الموقف من رفض جنديّ الانصياع لأمر يخلص إلى قتل إنسان، تقول والدته جازمة: "لا يمكن بناء جيش بهذه الصورة!".
يعود إلعاد بعد خدمته العسكريّة مصابًا بالاكتئاب، يعيش عازفًا عن المجتمع، عاطلًا عن العمل، ويصوّر فيلمه الثاني "الشُرفة" ( 2019Balcony ) وفيه نستمع إلى محادثاته مع والديّه القلِقان من اكتئابه، ونرى وجهة نظره الساخطة تجاه كيّفية معاملة الجنود بعد إنتهاء خدمتهم العسكريّة. يصوّر إلعاد حالة النفاق ما بين الحزن على القتلى من الجنود والاحتفالات بالاستقلال التي لا تفصلها سوى دقائق. يُرافق صوت الراديو الذي يعلن انتهاء الحِداد وبدء الاحتفال مشهدٌ رمزيّ مثير يراه إلعاد من على شُرفته حيث يتم دهس قطّة في الشارع فتُسارع قطّة أخرى إليها، تشتَمُ دمها وتغادر المكان تاركة وراءها جثة على أرض الشارع.
تعتمد معظم الأفلام الوثائقيّة الإسرائيليّة على المحادثات بين الجنود، أو بين الجنود وأفراد عائلاتهم، أو معالجتهم في غرف الأخصائيين النفسيين. وأحيانًا على المونولوجات التي تعلو منها ذكريات صدمة تعرضوا لها مثل موت أحد الأصدقاء، أو نقل مصابين وقتلى، أو تركهم من قِبل قادتهم في ساحة القتال، أو حاجتهم ومحاولتهم الاختفاء عن أعين القنّاصة، أو قتلهم للمدنيين ووجود أطفال حيث يدور القتال.
الأحلام والكوابيس وقلة النوم عناصر تتردد كثيرًا هنا، ولعل أكثرها شهرة بناء فيلم "فالس مع بشير" (waltz with Bashir 2008 ) للمخرج آري فولمان الذي كان طلائعيًا في كيفيّة عرضه للكوابيس وعلاقتها بالحرب. لكنها أيضًا محور فيلم "المعركة لم تنته بعد" (2018 The Never Ending Battle) للمخرجيّن إيتاي رزيئيل ورودريغو غونزاليس، والذي يدور حول أفول نجم التلفزيون أرجينتيني المولد رودريجو غونزاليس بعد عودته من الخدمة العسكريّة وأزمته النفسيّة التي ولدت خلال معركة "دبل" في الجنوب اللبنانيّ. يشدّد غونزاليس على أن هذه المعركة غُيبت عن الوعي الإسرائيليّ رغم مقتل 9 جنود وأصابة 31 آخرون خلالها. يستعيد غونزاليس أمام الكاميرا تارة، وأمام جمهور من المصابين نفسيًا تارة أخرى، كيف تعرضت كتيبته القتالية النخبويّة للقصف بصاروخ مضاد للدبابات، وكيف حمل جنديًا نازفًا بعد أن فقد جزءًا كبيرًا من جسمه.
في هذا الفيلم عرض هام لحاجة القادمين الجدد لأن يكونوا جزءًا من المجتمع الإسرائيلي وإثبات يهوديتهم أو صهيونيتهم، وكيف يختار هؤلاء التجنّد للجيش ويجتهدون للقبول في وحدات قتاليّة ليحظوا بالإعجاب في مجتمع لا يتقبّلهم[4].
الصدمة كما تصوّرها الأفلام الوثائقيّة الإسرائيليّة هي حادثة أو تجربة تظهر بعدها بفترة ردود على شكل هلوسات، أو قلق أو عدم القدرة على المضيّ في الحياة بشكلٍ طبيعيّ. يستوعب الإنسان بعد فترة من حدوث أمرٍ ما ماهية الحادثة فتكون هناك أزمة بين المعرفة والواقع. وقد اختارت الباحثة جانيت ووكر[5] مصطلح "disremembering" لوصف العلاقة بين الواقع والفانتازيا في التجسيد السينمائي لذكريات الصدمة.
في الأفلام المذكورة يكون التذكّر انتقائيّا ومتقطعًا، لأن عدم التذكّر أو النسيان هما استراتيجيّة لاستمراريّة الحياة، لكن عندما تظهر علامة الصدمة على جسد الجنديّ على شكل نُحول الجسد تبدأ عمليّة التذكّر ومحاولات المعالجة.
يؤكد كل من الفيلميّن "الشُرفة" و "المعركة لم تنته بعد" أن مؤسّسات الدولة المختلفة تُبدي اهتمامًا بالجندي المصاب بالصدمة إلى مرحلة معينة ثم يبدأ الاهتمام بالتلاشي ليواجه الجنديّ المُحرر من الخدمة العسكريّة سجنًا نفسيًا طويل الأمد - وحيدًا.
نقد مبنى وسياسات منظومة الجيّش
هي أفلام تقدّم مراجعة لهيكليّة الجيّش ونظامه الداخليّ ووحداته التخطيطيّة والتنفيذيّة. ففي فيلم "رأي الجندي" (2022 Solders Opinion ) للمخرج أساف بانيت، يتم البحث والتحقيق في عمل وحدة الرقابة في الجيّش الإسرائيليّ والتي عملت في السنوات ما بين 1948 حتى 1998. كانت وظيفة المجندات والمجنّدين في الوحدة التجسّس على الجنود من خلال فتح وقراءة الرسائل التي يكتبها الجنود للجانب المدنيّ من أمهات آباء وزوجات وأحباء، في تلك الفترة كان يصدر تقرير خاص تحت مسمى "رأيّ الجنديّ" وهو يراقب بشكل خاص توجهات الجنود المناصرة للفلسطينيين، أو تعابير تتطرّق للأخلاقيّات في الحرب، أو المعنويات لدى الجيش، وحتى الميول الجنسيّة واستخدام المخدرات.
في هذا الفيلم يكشف بانيت عن سياسات الجيش تجاه مجنديه واعتبارهم مصدرًا للمعلومات، وكيفيّة قراءته لأفكار ونفسيّات ومواقف الجنود واتّخاذ التدابير للتعامل معها، ويكشف كيف تؤثّر الرسائل في مكانة كل جنديّ، وفي المهام الملقاة على عاتق الجنود من جهة وفي بناء تصوّرات عن الجيش وولائه وسريّته.
في المواجهة بين كتيبة "التجسّس" على الرسائل وبين الجنود يعرض الفيلم حالة من العجز الناقم تجاه المنظومة القامعة التي انتهكت خصوصيات أفرادها بذريعة السريّة والأمن.
في فيلمه "عمّي بطل حرب" ( My War Hero Uncle 2018) يقدم المخرج شاكيد چورن قصة مثيرة حول عمّه عامي، أحد الجنود الذين قتلوا خلال حرب الأيام الستّة ليكتشف بعد سنوات من الموت أنّ المعلومات المتوفرة لديه لا تتفق مع تلك المسجلّة في الذاكرة العائليّة حول ابنها الذي قدّم روحه فداءً لدولته الناشئة، وأن قبره في المقبرة العسكريّة ليس سوى محاولة لإخفاء حقيقة وفاته بعد إنهاء خدمته العسكرية، وكيف تصطف العائلة إلى جانب المؤسسّة العسكريّة لتحظى بفخر بلقب "عائلة ثاكلة".
ينتقد جورن بشدّة سياسات الجيش المتأثرة من الحالة الاجتماعيّة تجاه أصحاب الميول الجنسيّة المثليّة، ويخرج لمعركة من أجل الحقيقة التي عادة ما تتم التغطية عليها أو التحايل حول تفاصيلها أو فرض الرقابة على حيثياتها.
يمكن النظر إلى فيلم شاكيد چورن كفيلم مكمّل لتفصيل ورد في فيلم أساف بانيت، حيث تفرض الميول الجنسيّة حالة من الرقابة والتقييد على المُجنّد تدفعه بهدوء خارج المنظومة.
في فيلم "ولدين في اليوم" (Two kids a day 2022) للمخرج داڤيد ڤاكسمان و "مختبر الاحتلال" (Occupation Lap H2/ 2022) للمخرجان نوعام شيزاف وعيديت أڤرهامي نرى سياسات الجيش والحكومة والمخابرات تجاه الفلسطينيين.
ففي الأول يكشف لنا المخرج ڤاكسمان سياسة ومخطّط أسر الأطفال في سن مبكرة لخلق أجيال غير قادرة على المقاومة خشيّة استعادة تجربة السجن. ففي المواد الأرشيفية التي يقدمها الفيلم من غرف التحقيق مع الأطفال أو كيفيّة الاعتقال عن يد المستعربين، نرى كيف تطبّق أهداف العقليّة الاستعماريّة بأدوات مباشرة وعميقة التأثير، فالفكرة – كما ترد على لسان الإسرائيليين ومن بينهم المحامي المدافع عن حقوق الإنسان نيري راماتي - أن اعتقال أطفال في سنّ الحادية عشرة حتى الرابعة عشرة وإبعادهم عن عائلاتهم وتخويفهم وتعذيبهم نفسيًا وجسديًا، سيمنعهم مستقبلًا من المشاركة في أيّ نشاط مناهض للاحتلال، وفي الواقع تشهد المقابلات مع اثنين من بين 4 أسرى على خوفهم الشديد من التعرّض للاعتقال مرّة أخرى، والتزامهم البيت والدراسة والعمل وعزوفهم عن أي فعل احتجاجيّ ضد المحتل.
أما في فيلم "مختبر الاحتلال H2" فنرى كيف ترسم الحكومة الإسرائيلية مخططات للاستيلاء على الأرض وتستخدم المستوطنين لتنفيذها والجيش لحماية المستوطنين وترويع الفلسطينيين. يشرّح الفيلم عملية التوسع الاستيطاني التي تتم بمشاركة تامة مع الجيش الذي يقوم بوظيفة الدفاع عن منفذي الخطّة وحراسة المناطق التي تم اخلاؤها من الفلسطينيين في منطقة البلدة القديمة لمدينة الخليل جنوبيّ الضفة الغربية. يستضيف الفيلم واحدة من الجهات المناهضة لممارسات جيش الاحتلال وهي جمعية "كسرالصمت" (Breaking the silence ) حيث يؤكد ممثلها أن الجنود يتلقون أوامر لإطلاق النار العشوائية تجاه الأحياء الفلسطينية بغية التخويف الملحق بالقتل ومن ثم التهجير. يقدّم الفيلم موادًا أرشيفية مهمة تعكس تاريخًا طويلًا من الاحتلال لمدينة الخليل بدأ في الخمسينات وتطوّر حتى كاد يُفرغ الجزء القديم من الخليل من أهلها- وهو الجزء المسمى إسرائيليّا H2. أطلق المخرجان اسم "مختبر الاحتلال H2" على الفيلم للتأكيد على أن المخطط العسكريّ الذي بدأ تنفيذه في الخليل هو تجربة مخبريّة يُراد تطبيقها في القدس ونابلس وغيرها من المدن والأحيزة الفلسطينيّة.
إنتاج المُقاتلين وصناعة البطولة
في هذه الأفلام يتم تصوير المجتمع الإسرائيليّ وتعاطيه مع الخدمة العسكريّة الإلزاميّة، ومفاهيم البطولة ومكانة الوحدات القتاليّة الرفيعّة التي تخلق لدى المراهقين حلمًا بالانتساب لها. هذه الوحدات القتالية هي مصنع مفاهيم البطولة من جهة وثقافة الثكل من جهة أخرى، بحيث "تزدهر" صناعة كاملة تعتمد على الحرب والإعاقات الناتجة عنها نفسيًا وجسديًا.
في فيلمها "صورة النصر" ( Image of Victory 2019) تقدم المخرجة عادي مشنيوت توثيقًا لإصابة أخيها أوري وهو جندي في وحدة جولاني القتالية. أصيب أوري في قدمه خلال عملية "الرصاص المصبوب" ولم يعد يقوى على المشيّ بلا عكازين. خلال فترة مكوثه في المستشفى تتابع كاميرا عادي كل زائريه، وتدور بينها وبين والديّها وأخيها المصاب حوارات مثيرة عن الحرب والسلم وصناعة البطولة.
في مبنى فيلم كهذا هناك تفكيك وتشويش للاجماع الوطنيّ، فتصوّر المخرجة كيفيّة تجنّد المشاهير والجمهور لدعم الجنود المصابين وعائلاتهم، كيف يُغدق المجتمع على الجنديّ بالهدايا والمال، وكيف تحضر أكثر الشخصيات شهرة في إسرائيل إلى أروقة المستشفيات لينال الجنود المُقعدون صورة تذكاريّة معها، ثم يغادر الجميع ليبقى الجنديّ مع إعاقته وحيدًا لا عون له إلا عكازه وعائلته.
في مشاهد عدّة نرى كيف يحظى البطل المصاب بالاهتمام من قبل ممثلي الحكومة والجيش والمجتمع، جميعهم يأتون شاكرين له تقديمه نفسه أضحية لأمنهم وسلامتهم. في هذه المشاهد بلا استثناء يقف والدي الجنديّ المصاب جانبًا يتابعون ما يحدث ويعبرون بعيونهم عن موقف رافض لصناعة البطولة الزائفة لكنه لا يقوى على المجاهرة بنفسه لكونه أقليّة. يتحدث الأهل عن ضرورة السعيّ لإحلال السلام مع الفلسطينيين، ويتابعون نشرات الأخبار التي تأتي بالصور القاتمة من غزة.
يسخر الفيلم من زيارة قائد وحدة جولاني ووصفه للتواجد في قطاع غزة بأنه "مثير للاهتمام ومُسلٍ" في محاولة منه لتصوير الخدمة العسكريّة كلُعبة محوسبة! بعده مباشرة، تسرق المخرجة بذكاء لحظة قصيرة كبيرة المعاني يقوم فيها والد الجنديّ بالانضمام إلى جوقة الداعمين المتحلقين حول سرير ابنه في المستشفى وهم يغنون، يتمتم الوالد مبتسمًا بحذر كلمات "أغنيّة للسلام" - وهي آخر ما ردّده اسحق رابين قبل أن يتم قتله على خلفية أيديولوجية!
أخوّة السلاح وأخوّة الثكل
تصوّر هذه الأفلام العلاقات بين الجنود في وحداتهم خلال وبعد الخدمة العسكريّة، أو تصوّر العلاقات ما بين عائلات ثكلى وجنود أو عائلات ثكلى مع بعضها البعض.
تعتمد هذه الأفلام على الألم المشترك كطُعم لخلق حالة من التضامن المجتمعيّ الذي يُلهي العائلات عن مَصابها. ففي فيلم "أبوين" (Two Fathers 2022) يقدم المخرج يوآڤ كلاينمان قصة الممثل اليهودي شلومو ڤيشنسكي والعربي حسن غدير اللذان فقدا ولديهما ليؤور وأيمن في عمليّة محور فيلادلفي التي وقعت خلال العدوان على غزة في العام 2004.
شلومو الذي يعيش في تل أبيب يواظب على زيارة حسن الذي يعيش في بئر المكسور في الجليل. ويحاول الفيلم أن يظهر مدى التضامن بين أبويّن ثاكليّن يتخطيّان الانتماءات القوميّة ويتّحدان في الألم من منطلق اختلاط دم ابنيّهما خلال حادثة التفجير الذي حولّهما إلى عائلة واحدة ذات مصير مشترك. لكن الواقع أكثر قوّة من السيناريوهات، فتتغلّب الفروقات القومية على فقدان الأبناء حينما يصبح شلومو وسيطًا لحسن لكونه يهوديًا. يركز الفيلم على محاولات شلومو النضال إلى جانب حسن في معركته ضد لجنة التنظيم البناء التي تمنع حامل اللقب الفخري الأهم في إسرائيل "الأب الثاكل" من الحصول على تراخيص لإنشاء مزرعة للحيوانات، وكيف لا تشفع للعربيّ أيّة قرابين يقدمها للدولة حتى لو كانت روح ابنه.
استعادة التاريخ وأنسنة الفلسطيني
هي الأفلام التي تعتمد على استعادة تاريخ الخدمة العسكريّة لجندي أو لوحدة كاملة وتعيد مراجعة ممارساتٍ تجاه الفلسطينيّ. يطغى الشعور بالذنب، والاعتراف والمسؤوليّة والسؤال الأخلاقيّ بعد سواد حالة العمى تجاه الطرف الفلسطيني.
ففي الفيلم الجدير بالاهتمام "وأنا كنت هناك" (And I Was There 2020) يقرر المخرج عيران ݒاز الكشف عن جانبٍ جديدٍ من فظائع الاحتلال طالما كان مظلمًا.
يقرر عيران بعد 18 عامًا من إنهائه خدمته العسكريّة أن يستخرج موادَا مصورّة محفوظة في أرشيفه الشخصيّ، يشاهدها ويستعيد ذكريات تصرفات مهينة ارتكبها وزملاؤه في الكتيبة العسكريّة تجاه عائلات فلسطينيّة. يتواصل باز مع أفراد الكتيبة، ويحاول استرجاع تلك الفترة والدوافع من وراء فعلوا، مع أصدقائه من ناسٍ ومُتناسٍ ومُعترف، يحاول باز إيجاد العائلة الفلسطينية من خلال تحديد البيت عبر خاصيات الخرائط المحوسبة، والتواصل معها ليقدم اعتذاره عمّا فعله لأفرادها من اهانة وتنكيل.
على الرغم من كل ما وصل إلينا بالشهادات الشفوية من الفلسطينيين طوال سنوات احتلال الضفّة الغربيّة وقطاع غزة، إلا أن هذا الفيلم يكشف جانبًا جديدًا، فهو يسلط الضوء على كتيبة عسكريّة كانت تدخل بيوت الفلسطينيين وتسجن أفراد العائلة جميعًا دون استثناء في إحدى غرف البيت وتدعوهم بالـ "رهائن"، ثم يقيم أفرادها حفلات صاخبة يتخللها استخدام المخدرات وتناول الكحول وسماع الموسيقى الصارخة والعبث بمقتنيات البيت وأغراض العائلة الشخصيّة والحميمة.
على الرغم من أن فيلمًا كهذا يتعامل مع الفلسطينيّ الإنسان، ويعكس نوعًا من التعاطف أو التفهّم لألمهِ، إلا أنها في نهاية المطاف جزء من عمليات استشفاء الجنود الضالعين في الجرائم النفسيّة ضد الفلسطينيين. هؤلاء الذين تلاحقهم وجوه الفلسطينيين سنوات طويلة بعد انتهاء الخدمة، وتترك لديهم إحساسًا يكاد يقترب من الـ Post Trauma ، فيشرعون في البحث عن طرق للتخلص من أعبائهم النفسيّة والاكتساء ببطولة إنسانيّة تحمّل الفلسطينيّ المزيد من الشعور بالعجز!
بين فلسطين ولبنان: تشفير الذّاكرة والجَرح المفتوح
تترك أفلام الجيّش انطباعًا عامًا بأن الجنود هم ضحايا حتى في الأفلام التي تفخر بعمليات عسكريّة معينة، فلا تنفك تشدّد على التضحيّة بحياة البعض من أجل الحفاظ على كيان وكينونة الدّولة.
تُظهر قراءة الإنتاج الوثائقيّ الإسرائيليّ أن كمًا كبيرًا نسبيًا من الأفلام المُنتجة منذ الثمانينات وحتى 2022 ينبش في التجارب الفرديّة لصنّاع الأفلام أو أبطالهم خلال حربيّ لبنان الأولى والثانيّة. يبدو جليًا أن لبنان هي جرح مفتوح يصدّر للسّينما والتلفزيون – على حد سواء- موادًا غزيرة تتصدّرها القصص الشخصيّة، ويتوسطها الألم والنقد، وتتذيلها مشاعر الخسارة والفقدان وعدم القدرة على التفوّق عسكريًا على الرغم من التغنّي بـ "ضرب أهم منشآت العدّو" و "إلحاق الخسائر" و "اغتيال القادة" و" استعادة الهدوء على الحدود الشمالية" إلا أن وصف المصابين جسديًا وانتاج مزيد من المصابين بالصدمة جدير بالبحث والتقصّي ومحاولة استيضاح جدوى هذه الحرب من وجهة النظر الإسرائيليّة.
في العام 2020 وحده، أنتجت هيئة البث الإسرائيليّة سلسلتيّن وثائقيتيّن حول لبنان، الأولى "حرب بلا اسم" إخراج يسرائيل روزنير وتتحدّث عن حالة الحرب التي سادت على مدار 18 عامًا ما بين الحربين الأولى والثانيّة، وتصوّر السلسلة ما وصفته بحرب الاستنزاف مقابل العدو الناشئ "حزب الله" وما تخللها من نصب الكمائن، وقصف النقاط العسكريّة، وزرع العبوات الناسفة، وأنتاج جيلٍ من الضحايا الجنود الذين لم يحظوا بالبطولة بسبب الانسحاب من جنوب لبنان عام 2000. أمّا الثانية "لبنان- حدود الدم" اخراج دوكي درور، فتتحدث السلسلة عن التراجيديا اللبنانيّة ودور إسرائيل فيها منذ سنوات السبعينات ووصول منظمة التحرير الفلسطينيّة إلى بيروت بعد تركها للأردن عقب إحداث أيلول الأسود، والحرب الأهليّة اللبنانيّة، ومحاربة حزب الله حتى الانسحاب. يعكس انتاج سلسلتيّن في السنة ذاتها من قبل نفس هيئة البث ومصدر التمويل، عن الاهتمام الهائل، وعمق الجرح الذي أحدثته لبنان في الجسد الإسرائيليّ فعليًا ومعنويًا.
بالمقابل تُظهر أفلام الانتفاضتين حالة من تشفير الذاكرة. فصنّاع الأفلام – في حال كانوا أبطالًا – أو اختاروا لأفلامهم أبطالًا آخرين، يستعيدون تجارب الانتفاضتيّن بعد سنوات طويلة من الحدث. وقلّما يكون في هذه الأفلام حديث عن الصدمة – بسبب طبيعة العلاقة ما بين إسرائيل كدولة محتلّة والفلسطينيين كمحتلين، وسيطرة إسرائيل على الأرض، وإدارة الحرب مع شعب لا يملك جيشًا نظاميًا مجهزًا بالعتاد يلحق الجانب الإسرائيليّ بالخسائر - إنما تطغى على هذه الأفلام إستعادة ممارسات وتصرفات وتنفيذ أوامر أساءت وتسيء للفلسطينيين، في بعضها يكون الهدف توجيه النقد للمنظومة العسكريّة وفي بعضها الآخر محاولات للتكفير عن الذنب والنوم بهدوء – وموضوع القلق الليليّ والكوابيس هو موضوع متكرّر في المقابلات مع الجنود وضبّاط الجيش أو المخابرات- يكون الفلسطينيّ في معظم هذه الأفلام منصةّ يقفز عنها الإسرائيليّ المُذنب نحو راحة البال والضمير!
في سياق الانتفاضتيّن يجدر الذكر بأن العمليّات الاستشهاديّة التي استهدفت الحافلات العموميّة الإسرائيليّة في أواخر التسعينات وأوائل سنوات الألفين، حظيت ببعض الاهتمام كجزءٍ من الأحداث التي تركت ندوبًا نفسية في أوساط الإسرائيليّين وأثّرت على ممارساتهم اليوميّة وإحساسهم بالأمان داخل مُدنهم، لكنها أفلام تصب في ثيمة الصراع الفلسطينيّ- الإسرائيليّ وتأخذ بُعدًا تحليليًا مختلفًا.
تتسّم الكثير من هذه الأفلام سواء تلك المتعلّقة بحروب لبنان أو الانتفاضتين، بالإحالات إلى آخرين وإلقاء اللوم على القيادات، فيها تكثيف بصريّ ومواد أرشيفية إلى جانب المقابلات وتصوير الواقع، واستخدام لوسائط تخفف من هول الفظائع المرتكبة كالرسوم المتحركة أو التعتيم أو الظلال لعدم الكشف عن وجوه الضالعين والمخاطر المترتبة على التصوير العادي.
خاتمة
إذًا، إن الأفلام الوثائقيّة الإسرائيليّة التي تتحدث عن الجيّش وعمليّاته العسكريّة تشهد تحوّلات ما بين المعركة الجماعيّة والفرديّة وقيمة الإنسان في المنظومة السكريّة، واستخراج الحقائق من الأرشيف أو شهادات الفاعلين في عمليات ضد الشعبين اللبنانيّ أو الفلسطينيّ، ونقاش معمّق حول جدوى الحرب. يتمتّع صنّاع الأفلام الإسرائيليون بامتياز المقدرة للوصول إلى مواد أرشيفيّة لا يتمكّن سواهم من الوصول إليها وإن تمكّن فلن تكون بالكم ذاته أو حريّة الاستخدام ذاتها، لذا فإن السنوات الخمس الأخيرة تشهد إزديادًا في الكشف عن تفاصيل عمليات عسكريّة يعود بعضها إلى العام 48، يجعل هذا الامتياز الفيلم الإسرائيليّ يبدو كناقد حرّ للمنظومة العسكريّة في بلاده، يتفوّق نقده على الضحايا الحقيقيين الذي يبقون في الظل فيما يسطع نجم صانع الفيلم ويًتبنى فيلمه كوثيقة تنافس في بعض الحالات شرعيّة ذاكرتنا الشفويّة- لسوء حظنا!
قد تحوي بعض الأفلام اعترافًا صريحًا بارتكاب الجرائم الأخلاقيّة أو العسكريّة، أو هلوسات ترمي إلى التشبّه بالاعتراف، وعلى الرغم من كم الفائدة العائدة على الفلسطيني أو اللبناني في حالة كهذه، إلا أن السرديّة تبقى في السواد الأعظم من الأفلام خادمة – حتى لو بشكل مبطّن أو غير مقصود- للطرف الإسرائيليّ من المعادلة، ولتعدديّة التعبير عن الرأي والمواقف فيه. وبالتالي فإن كل مراجعة لهذه الأفلام مهما تضامنت مع ضحايا من غير الإسرائيليّين فإنّ من الواجب تمريرها عبر مصفاة الوعي الدائم بأننا نعيش في ظل حرب الخطابات والروايات وأن شرعيّة رواية الفلسطينيّ لا تُستمد من شهادة جندي واعترافه.
[1]ملحي، أساف (2021). "تصدّعات في الإجماع، تحديات جيش الشعب ونموذج التجنيد للجيش الإسرائيلي في واقع سياسيّ متغيّر" –بحث السياسات 156. المعهد الإسرائيلي للديمقراطية.صفحات 38-32.(بالعبرية)
[2] المصدر السابق. صفحة 12.
[3] راز، يوسف (2018)، "شهادات بصريّة: التاريخ والتذكار في السينما الإسرائيليّة"، في مجلة "يسرائيل" عدد 14. صفحة 10.
[4] تشير رسالة صادرة عن مركز الأبحاث والمعلومات التّابع للكنيست من العام 2015 والموجهة إلى عضوة الكنيست في حينه كسانيا سڤطلوڤا إلى أنّ نسبة المجنّدين والمجنّدات للجيش من القادمين الجدد من دول الاتحاد السوفييتي سابقًا تفوقت على نسبة المجنّدين والمجنّدات من مواليد إسرائيل بحواليّ 12% لدى النساء و 3% لدى الرجال.
[5] Walker, Janet: "Trauma Cinema: Documenting Incest and Holocaust". Berkeley, Los Angeles, London 2005. Pp. 17.19.