مربع يعتليه مثلث، ويتوسطه باب مغلق يفتقد غالبًا الى يدٍ لفتحه، وعلى جانبيّ الباب شباكان صغيران ذي أربع قسائم قد تكون زجاجية، وشجرة ربما تكون مثلثة كالسروة او بيضوية مجعّدة الحواف كبرتقالة؛ تزيّن أحد جانبي البيت. هذا هو بيتي الذي كنت أحرص على رسمه في طفولتي – كما كان معظمنا – بيت يلتصق بالأرض بعيدًا عن طوابق الأعمدة التي قضيت فيها ايامًا طويلة من صيف طفولة أنهكها اللعب تحت أشعة شمس حارقة، تحوّلت هذه فيما بعد إلى مصفات للسيارات المتكاثرة بين بيوتنا.
بيتي على الورق قد يكون ملعبًا للرغبة بالعيش في حيّز صغير حميمي الأجواء وحيدًا في مكان مجهول تحيطه السماء والشمس ويحلق فوقه عصفوران وربما غيمة وجبل بعيد. يزداد جمال بيوتنا على الورق حين نبعث فيها حياة الألوان.
لكن لطالما كانت دواخل بيوتنا هذه سرًا!
على شاكلة بيتي المرسوم تُحمل الى المسرح ستة مجسمات كرتونية ثلاثية الابعاد ذي ضوء خافت يبعث الحياة في أحيزة مغلفة بلون الاسمنت الرمادي، وكأنها بيوت الرواة الستة الذين يفتحون برفق أبوابًا ويقتادون عواطفنا وأذهاننا نحو حكايات قد تكون وليدة الحقيقة او نسج خيال.
يستحيل وضع معرفة او صداقة مع الرواة جانبًا، ومع ذلك فإن البساطة في الزيّ والديكور، والهدوء الذي يفرض نفسه جديرة بجعلنا نحاول بكل ما أوتينا من اصغاء متابعة السرد والسير بالنظر الى حيث ينظر كل راوٍ وراوية، هناك في أفق قصير المدى تُلقى الكلمات وتترك لتحوم في هذا الفضاء الذي يجمعنا لنكتشف أننا جميعًا شركاء في التجارب والآلام وتفاصيل ما قد يعتقد بأنها أسرار البيوت.
يأخذنا اياد في جولة بين كراتين تنقلت من بيت إلى آخر، يكشف محتوياتها المضجرة بالاختبارات الإنسانية، ويفتح شباكًا يطل على صراع قوميّ وآخر وجوديّ عابق برائحة المواليد الجُدد. كراتينه محطات ذكريات تتركب من تفاصيلها قصة شريكين كأنهما شاحنة نقل يحملان في قلبيهما بيتًا ومحتوياته، وخرائط ترميماته المنهكة، وزواره، والكورونا، وأنفسهما ويطوفان به بين مدينة وأخرى أو قد يكون بين شارع وآخر في ذات المدينة تلك كما العديد من الأزواج الشابة العرب.
ترش رجاء بعض رذاذ الأمل على يد متعبة لأم ترهقها طلبات أحبتها من سكان البيت، هي واحدة من تلك النساء التي تبني البيت مجازًا بالإرادة والحب.
يمر اعترافها أمام أعيننا صورًا لامرأة عصاميّة قد تكون أحاديّة الوالديّة وقد تكون زوجة تتقن فن الكتابة التي تروي الروح فتتفتح منها ذكريات في بيت تم اغتياله في مدينة بعيدة أرهقتها الحرب.
بنص غنيّ بالاستعارات يقف علي أمام ألبومات البيوت، يطالع أوراقًا تحمل ذكريات قد يرغب الناس في نسيانها او تذكر ما قد نسوه. نستشعر فجأة ان ألبوماتنا هي زر يعيد احياء تيار الحنين فيسري في التفاصيل الصغيرة الغائبة، ذكرنا عليّ أن الحجارة قصص فكل حجر في البيت قد يكون مخزن ذكريات، تصطف الحجارة جنبا الى جنبا دون حراك، مؤدية واجبها كما هو حال الألبوم.
تطرق مي باب غضبي مذكرة إيايّ بأمي المهووسة ببياض الغسيل الناصع والزج بالأغراض الى أقصى كل رف حد الالتصاق بالحائط- كالكثيرات من النساء حولنا. تستفز مي ما نعرفه ونتجاهله من تفاصيل الحياة اليومية في البيت الذي يتشاطر والمهنة والزوج والأولاد حصصًا من طاقات النساء. مطيعات نداء واجب التنظيف وهوس التأكد من كل شيء مرتين وكأنهن ناقصات عقلٍ وتركيز.
يجدد محمود رعشة الخوف فينا، الخوف الذي يزرعه كبار كل بيت في الصغار رغبة منهم في السيطرة على التصرفات الطفلة الشقية، يعيد للأذهان ما قد غاب عنها من شخصيات مرعبة مصحوبة بموسيقى فترات زمنية من تاريخ التلفزيون الأردني التي كانت تسحر مسامعنا. يوقظ الخوف من العتمة والنسيان وهجران الأم، يوقظ الحنين الى هيبة التصريحات السياسية المصيرية وعبء قد يحمله الوليد بسبب سنة ولادته!
يطل عليّ حاملًا قصة قد تجولت سنوات طوال بين جذوع زيتونات وادي الخروب، يغازل الأرض وما عليها من حيوات تحمل رائحة تشرين. تصبح هوامش البلدة فجأة لوحة فنية تتعثر فيها الألوان بين النحاسيّ والأخضر والبنيّ وتشتبك أصوات الحيوانات بصوت لهاث أطفال يتراكضون. تكبر حكاية طفل ومواسم غنية تلاصقها حكاية مستعمرة تنهش بهاء المكان وتغيّب بشرًا كانوا يستلقون هنا في نهاية نهار زراعيّ حافل لالتقاط صورة.
تحمل فردوس قلبها وتدخل به مسارات دموعنا، فرغم أنها تبدو كمن تعلمت السير بين النقاط وإن كانت دمًا، لم يكن من السهل أن نتجاهل أحد قلبيها وهو يطوف ما بين حضورها على المسرح وصوت الابتهالات في الخلفية. دخلنا بيتها ورأينا قلبًا يهوي وينكسر بعد أن تعلّم كيف يأكل وينام ويغتسل ويجلس في حضن دافئ يتابع برنامجًا تافهًا في التلفزيون. نعيش معها تجارب الأمهات وهن ينجبن قلوبًا صغار ويفتحن لهم بالقلوب شبابيك الحياة لينطلقوا منها.
هذا العمل ببساطة قالبه الخارجي مثل صندوق العجب، تفتح أبوابه فتخرج منه نصوص مسرحية نواتها تجارب الجسد او القلب او الروح، يقف فيها الراوي مصارحًا ومشاركًا وكأنه يفتح لنا باب بيته ويتركنا نحوم فيه ونستكشف لنروي ظمأ حب استطلاعنا، فنفتح الكراتين والألبومات ودفاتر الشعر المخبأة بين كتب مهملة وننبش سلال الغسيل ونشم رائحة مكبات النفايات وتتجسد أمامنا ساحرات طويلات الشعر مخيفات وبعض الصور من الأخبار المحلية. قد نتساءل عن ارتباط كل نص بقائله، ولا نقوى ألا نفعل، نتقاسم مع هذه النصوص الكثير من التجارب الجمعيّة والكثير من الضحك وأطنانًا من الانفعال.
لا يمكن للكراتين ولا للجرائد ولا للمخازن المقفلة ان تغلف الذكريات وتحميها من الفقدان لكن النص قادر والصورة قادرة والشريط المصور قادر والموسيقى كذلك. لم تكن هذه بيوت اصحابها فقط، هي بيوتنا جميعًا، يشعر المشاهد أن بامكانه استبدال الراوي وربما استبدال شخصياته بأخرى مألوفة الرائحة والملمس، فأنا وأمي وحارتنا النائية والجبل القريب والنبعة وكراتين الجرائد القديمة المدفونة تحت الدرج، وألبومات صور أبي وافقًا بين أعمدة البنايات في طبريا، وصورة نظارتي الأولى فضية اللون، وصور احتفالاتنا بميلاد أخي الصغير أو زيارة أقاربنا من مخيمات اللجوء، ولوحة تحمل خبر تنحي عبد الناصر مع شريط أسود على طرفها الأيمن كأنها إعلان وفاة، وزجاج الباب الأخضر الذي كسره إبن عمي وهو يقلد لاعبي المصارعة، وساحة بيتنا الخشنة التي تتسخ المرة تلو الاخرى بسبب أوراق الشجر، ورائحة ياسمينة كبرت في حاكورتنا رغم أني سرقتها من حاكورة أحد البيوت المجاورة للمدرسة وانا في الصف الرابع، وستّي آمنة الجالسة في الغرفة الغربية تحمي شنطة بيضاء اللون مثقلة بعلب الأدوية وكأن حياتها معلقة بها، ورائحة شعرها المصبوع بالحناء، وتجاعيد يدها وهي تمسك سماعة هاتف ذي قرص تستمع إلى أصوات بعيدة وتبكي أخاها الرازخ تحت القصف.. كل هذه قامت فجأة من سباتها فقد لاقت ما يشبهها في هذا العمل.
خرجت من بيتي محصنة بعطش لحدث ثقافيّ، ودخلت قاعة المسرح معتقدة أنني سأشاهد ستة أشخاص يلقون على مسامعنا بعضًا من نصوصهم الشعرية أو الأدبية وقد حيكت بشكل ابداعي يسهل ارتباطها والتنقل فيما بينها، لم أكن أعرف أني سأدحل بيوتًا أخرى وسأجلس مستمعة ومستمتعة وأخرج وقد فاضت مني مشاعر حنين لطفولتي التي تبعد عني مسافة أربعين عامًا، ولأشخاص افتقدهم فلا أجد غير صور لمواساتي، أو ربما افتعال حديث يعيد حضورهم رغم غيابهم وترديد اسماءهم على مسمعي، وحبًا حتى الدمع لأشخاص غابوا عني للأبد تاركين على جبهتي وحاجبي ندوبًا تحفظ الذكرى.
العرض الأدائي المسرحي "بيوت" - أخراج كامل الباشا بمشاركة مجموعة الكُتاب والشعراء إياد برغوثي، رجاء غانم، علي قادري، علي مواسي، فردوس حبيب الله، محمود ابو عريشة، ميّ كالوتي.