فاتن أمل حربي.. مواقف مصيرية في فخ السطحية
سماح بصول

تنطلق حنجرة المطربة أنغام وهي تغني: أنا مش ضعيفة وليا في الحياة مطرح، ومش قادرة أكون كومبارس على المسرح.. وقادرة زي ما أنجرح أجرح
قراري من دماغي.. أنا الإرادة وطايرة في الحياة بجناحين، وعارفة طريقي سكته فين
قوية غنية عن التعريف.. أنا الإرادة
بإيدي الدنيا والأيام ومش قابلة أعيش أوهام، أنا زحمة بشر ورصيف
 ومهما الدنيا تكسرني وشمسي تغيب.. أكيد بكرة أنا هفرح.. أنا مش ضعيفة.
مفتتحة مسلسل "فاتن أمل حربي" للمخرج محمد العدل، سيناريو وحوار ابراهيم عيسى، بطولة نيللي كريم وشريف سلامة.

بدءًا من اسمه يقدم صنّاع هذا المسلسل فاتن، امرأة يمكن اعتبارها أملًأ لنساء كثيرات يخضن حرب الطلاق. فاتن هي الأمل لحربها الشخصية وقد تكون مثالًا لأخريات، وهذه هي حكاية المسلسل التي نخوض فيها تفاصيل معركة امرأة مصرية من الطبقة الوسطى ما بعد طلاقها من زوجها سيف؛ مقابل سلطات القانون والشرع.

في فضاء معتم يشكل بيت زوجية لفاتن وسيف ومدار حياتهما العائلية، بيت تكاد الشمس لا تدخله، اضاءته ذابلة باهتة تجعلنا شاعرين بيغاب الود، من هذه العتمة تنكشف امامنا تفاصيل حياة فاتن مع زوجها الذي يحمل اسمًا يوحي بشخصية سليطة، يمارس العنف ضدها بلا سبب مقنع، متدرعًا ومتذرعًا بالحجاب يحاول فرض سطوته وكأنه يختبر رجولته بمدى انصياع فاتن له، وما نلبث نتعرف على حياتهما حتى نصطدم بالطلاق ومن هناك رجوعًا بالزمن تقدم لنا الحلقات الواحدة تلو الأخرى مشاهد من حياة فاتن ما قبل الطلاق لنتعرف الى الاسباب الكامنة وراء هذا القرار الذي يغيّر حياة فاتن كليًا.

رأيت في القصة رجل وزوجته وأمه وابنتيه،  وأنهكني السؤال حول دور عائلتها في التعامل مع كل مآسي فاتن وابنتيها، لكن كاتب السيناريو قرر ان يمد في انهاكي حتى الحلقة التاسعة حيث نعرف حقيقة كون فاتن يتيمة الأبوين، وأن لهذا حصة في محاولات زوجها تحويلها الى جارية مطيعة. ويدور في فلك هذه المعلومة سؤال: هل حقًا وجود عائلة وأبوين يغيّر من واقع النساء المطلقات؟! هل حقًا تشكّل العائلات حضنًا للمرأة في حال اختارت الطلاق؟ هل قرار الكاتب يأتي ليزيد من معاناة البطلة؟

درست فاتن القانون، وكما يقول محاميها في احد حواراتهما "انت عاملة فيها دراسات عليا"، لن أنبش في درجتها الاكاديمية، لكن جملته توضح يقينًا أنها تعرف القانون، وكونها لا تمارسه قد يعرقل فهمها لبعض البنود او التشريعات المستحدثة، لكنها تعلم يقينًا أن القانون لا يتعامل مع العواطف، وعلى الرغم من ذلك فإن فرصها في عرض قضيتها عاطفية ولا تقدم حالتها كوضع قائم على القانون التعامل معه، فمثلًا تقول لأعضاء لجنة "الحل الودّي" قبل المحكمة في الحلقة السابعة: " انتو مش شايفين حالتي، ازاي لو مكنتوش لابسين نضارات"، لقد نجحت هذه الجملة في استفزازي الى درجة التفكير في مدى عمّق الحوارات، وفي التفكير مليًا في وقفات فاتن أمام ممثلي سلطات القانون والشرع هل هي صرخة عميقة وكلماتها مدروسة ومختارة بعناية ام هي "ردح"! خاصة وأن الكلمات المنطوقة ترافقت مع محاولات بكاء اكتست بالكثير من التصنّع.

قد تكون وقفات فاتن مقابل رجال الدين ومناقشتهم من أكثر الأمور اللافتة في هذا العمل، وقد يرى البعض في هذا الامر جرأة غير مسبوقة تناقش الشرع والتفسيرات والاجتهادات والفتاوى ولعل أكثر الجمل المتداولة في هذا السياق تحديدًا هي قول فاتن للمفتي : "ده مش كلام ربنا، ده كلامكو انتو.. ربنا مقلش كده" محاولة التشكيك في كيفية تفسير علماء الدين للآيات القرآنية بصورة تخدم الرجال دون النساء. وقد يرى آخرون أن خلفية المؤلف ابراهيم عيسى تستغل هذا العمل لإعلان مواقف مناهضة لمنظومة الحكم الشرعي والافتاء وعمل رجال الدين وتكريسهم لدونية المرأة بصورة تتنافى كليًا مع كلام القرآن والأحاديث النبوية. يترافق هذا مع حوارات مثيرة بين رجال الدين وتحديدًا في الحلقة الثامنة اذ يسخر أحد علماء الدين من حقوق المرأة وقانون الاحوال الشخصية متهمًا الجمعيات النسوية بالوقوف وراء عدم طاعة الزوجة لزوجها- وهو موقف مألوف لنا من واقعنا المُعاش في فلسطين! لكنه في سياق المسلسل يأتي ليقطع الطريق أمام فتح الباب لاجتهادات جديدة في مواضيع حياتية تجدر معاودة بحثها.

على الرغم من ضرورة القضية المقدمة في هذا العمل، ومع تنوّع المواضيع المطروحة وجرأتها والتأكيد على وجود نساء جسورات مقاومات من أجل حقوقهن وعدم تنازلهن أمام محاولات مهانة الكرامة ومقايضتها، إلا أن تفاصيل صغيرة تظهر بين حلقة واخرها يتحوّل تجمعها معًا الى عائق امام ارتقاء العمل ليكون متكاملًا قيّمًا. فمقابل فاتن هناك زميلتها ميسون وهي مسيحية تقوم بدورها الفنانة هالة صدقي. ميسون امرأة تعيش بلا زوجها الغائب منذ سنة، ولا نعرف اذا ما كان قد هجرها ام لا، وهذه معلومة مهمة اذا ان الفنانة هالة صدقي نفسها قد عانت في زواجها حتى نالت رغبتها بالطلاق، وهو أمر جدير بالنقاش اذا ما كان المسلسل يرغب بمناقشة ما يحدث في المحاكم الكنسية كما الشرعية في كل ما يتعلق بحق المرأة في الحصول على الطلاق دون المس بكرامتها. وهذا مكان للتساؤل: لماذا قدّم لنا الكاتب هذه الشخصية دون ان تقاطع قضيتها مع قضية فاتن على الرغم من انها تمنح العمل اكتمالًا معلوماتيًا حول تعامل قانون الاحوال الشخصية مع النساء من مختلف الديانات!؟

كذلك، فإن بعض المغالطات او ربما المواقف غير المنطقية تجعلنا نثسائل العمل حول مدى تعمّقه ودراسته للحالات في الواقع، فعلى سبيل المثال تجلس فاتن مع زميلاتها في العمل تشكو مما عانت من عنف جسدي ونفسي وما تعاني الان بعد الطلاق من تعذيب طليقها لها نفسيًا – وهن متحلقات حولها ومصغيات لها ومتعاطفات معها- وفجأة يظهر طليقها حاملًا وردة حمراء فتتغيّر تعابير وجوه زميلاتها لتحمل ملامح البلاهة والسذاجة والاقتناع بحيلة سيف وكأن رومانسيته المصطنعة تتفوق على الوقائع التي ترويها فاتن!

وفي موقف شبيه، تضطر فاتن وابنتيها الى قضاء ليلة نائمات داخل سيارة بعد ان قام طليقها بتغيير قفل باب البيت ومنعهن من دخوله، فتصرّح الابنة الكبرى لأمها من هول المعاناة "أنا بكره بابا". في اليوم التالي يظهر هذا الأب فجأة في تدريب الكاراتيه لبناته فتركض بناته نحوه لاحتضانه صارخات بفرح "بابا، بابا" وكأن ما عانينه ليلة الأمس تبخّر، علمًا بأن الأطفال أكثر صدقًا من الكبار في التعبير عن المشاعر. هذه الابنة نفسها تختار تسمية نفسها باسم أمها لاحقًا لتصبح نادين فاتن أمل حربي! فهل الطفلة على هذه الدرجة من الوعي لتقدم على خطوة التسمية هذه ام هي التي تنسى إساءة والدها بين ليلة وضحاها؟!

وفي موقف آخر تضبط فيه فاتن زوجها وهو يتحدث مع امرأة أخرى معرفًا نفسه بأنه أرمل، فتتحلى بضبط النفس والتروي والابتسام الساخر قبل ان تنهال عليه بالشتائم، يلي هذا الموقف تعبير الزوج عن حاجته لعلاقة حميمية واصفًا زوجته بأنها أصبحت باردة كاللوح، ثم يبرّد غضبه بقوله "ده انا بقيت عايش ومش عايش زي ما بيقول الهضبة" – في إشارة الى أغنية عمرو دياب! فكيف يختتم كاتب الحوار موقفًا حاسمًا متعلقًا بأحد أهم أركان العلاقة الزوجية – الجنس؛ بنكتة دون معنى.

ولربما أكثر المواقف سخرية في النصف الأول من حلقات المسلسل، والتي تبدو أقرب الى نمط الافلام البوليوودية التي تتسم بالغرائب والمعجزات المضحكة هو مبيت فاتن وابنتيها في غرفة صغيرة داخل مجمّع خاص للنساء المعنفات مع حقيبة تحتوي مليون و300 ألف جنيه! يليها لاحقًا منح رجل ثري "شفيع" شقة لفاتن.

على الرغم من أهمية وضرورة الموضوع الأساس لها العمل والمتعلق بحقوق النساء  وضرورة البحث فيها، فقد تم حشو العمل بالكثير من التفاصيل الصغيرة المرهقة التي تشيح النظر عن القضية الأهم. منها بعض التصرفات الصبيانية غير المبررة  لفاتن- كمحاولاتها مناقشة مدرب السباحة في كيفية التدريب فيما تتعرض ابنتها للغرق- والتناقض ما بين مناصرة المرأة وحقوقها مقابل الإشارة الى أن المرأة عدو المرأة من خلال شخصية مديرة فاتن العمل التي تشير لها بضرورة إطاعة زوجها، أو الحماة (والدة الزوج) التي لا تظهر اي تعاطف مع فاتن وحفيداتها، بل تساعد ابنها في الانتقام من زوجته السابقة وتقدّم له المشورة، ويقدمها العمل لنا على هيئة امرأة متصابية ينتقد ابنها صرفها على عمليات التجميل وصبغ الشعر.

من اللافت في زوابع القصة مدى تعاطف الأفراد الشخصي مع قضية فاتن، فالمفتي الشاب يتعاطف ويغامر بالتصرّف بسماحة غير معهودة من رجل بدرجة مفتي، والقاضي المدني يتعاطف صامتًا، والشرطي يدعو لها بعون الله، وعامل الفندق الذي يرفض استقبال امرأة دون زوج يرثي حالها بتعابير وجهه الحزينة، لكن فوق رأس كل هؤلاء غيمة القانون القاتمة التي يعرف الجميع مدى ظلمها لكنهم يتذرّعون بها ويحتمون بها. هل يبادر أي منهم للتغيير قناعة بضرورته؟ أم أن المواقف ما هي الا آنية حصرية مرتبطة بشخصية فاتن اللطيفة ووجهها الجميل؟

 

لا يمكن الحديث عن "فاتن أمل حربي" مع كل هفوات وعثرات نصف حلقاته دون ذكر مسلسل "البحث عن علا" الذي انطلق قبل شهرين عبر نتفليكس ويعالج هو الآخر قضايا النساء بعد الطلاق. ففيما يمكن اعتبار "البحث عن علا" كوميديا سطحية تركب موجة قضية الطلاق، فإن "فاتن أمل حربي" عمل درامي واقعي يصيب قلب ألم كل امرأة تخوض سيرورة الطلاق او قد حصلت عليه ولا تزال تعاني تبعاته، لكن التعامل غير المدروس مع بعض المواقف والمبالغة في طرحها يترك انطباعًا بعدم قدرة العمل على خوض المغامرة حتى النهاية فيرقّع التطوّر السردي ببعض الرقع المقحمة التي لا تضفي للقصة شيئًا.

من جهة أخرى فإن قرار انتقاد السلطات القانونية والدينية أمر جلل لا يجوز عرضه وكأنه قصة عادية متبلّة ببعض الانتقادات التي تسقط عنها الحقيقة والمنطق في الكثير من الأحوال. فالمجتهدين في تفسير الدين ليسوا عصابة كما يصورهم العمل، وليسوا ثّلة من الأصدقاء يناقشون قضايا الدين كما لو كانت مبارراة كرة قدم!

اذا كان هذا العمل يعتبر نفسه نسويًا او مناصرًا للمرأة فكنت أود أن أرى وأسمع هذه الأم المناضلة في حوارات بناءة مع ابنتيها، كنت أود أن أراها تترك للطفلتين بعض الحرية في ممارسة طفولتهن بدلًا من العدو السريع بين تدريب رياضي ودورة تعليمية. كنت أود أن أرى كيف ولماذا يرى الرجل حاجة في وضع زوجته الحجاب، وأن يناقش هذا الأمر بين الزوجين وألا يمر عرضيًا من خلال استخدام مصطلحات الفتنة والتحرش. كنت أود أن تقول فاتن للجمهور بوضوح أن المتحرش لا يكترث لعمر ضحيته او ملابسها وألا تقول ذلك وهي في طريقها نحو المطبخ وكأن الناس على درجة عالية من استيعاب عدم وجود علاقة بين قرار المعتدي وشكل ضحيته؛ كنت أود أن أرى واقعية أكبر في استخدام شبكات التواصل الاجتماعي والهواتف الخلوية، فهل يعقل ان يتم توثيق فاتن وهي تصرخ في وجه اكبر رجال الدين او القضاء ونشر الموقف عبر الشبكات الاجتماعية وخلق زوبعة تهز كيان القاهرة دون أن تفكر هي أو محاميها او حتى احدى صديقاتها في توثيق حواراتها مع طليقها او توثيق افعاله من تهديدات واعتداءات؟!

 

كان يمكن لهذا العمل ان يكون ثوريًا، جميلًا، مقنعًا، محفزًا على التغيير، منصفًا أكثر بحق المرأة لو أنه أراد ذلك حقًا، لقد وقع الاختيار على احدى أهم القضايا المجتمعية التي ترتكز على الدين والقانون وهما كحقليّ الغام لا يجوز دخولهما دون درع واق من الدراسة والبحث والرسالة الهادفة. في كل واحدة من الحلقات تقع القصة في فخ التسطيح بفعل تفصيل مُقحم، فتتزعزع حبكتها وتخبو نار ثورة تشتعل مع انطلاق التتر الذي يتفوق بمضمون كلماته وقوتها على حكاية فاتن أمل حربي.

جميع الحقوق محفوظة © 2024