هل حضرت النكبة حقًا في فيلم "فرحة"؟
سماح بصول

في الخامس عشر من أيار 2021، بالتزامن من الذكرى الثالثة والسبعين للنكبة قدّم مخرج فلسطينيّ شاب عملًا متفردًا بجودة محتواه، وجمال لغته البصريّة، وحُسن إخراجه، وذكاء أسلوبه، ومستوى تمثيله، وقوة تأثيره ونجاحه في إيصال رسالة واضحة حول قضية سلب البيوت في حيّ الشيخ جرّاح، "المكان" للمخرج عمر رمّال هو قصة مصورة ومثال لعمل ناجح بكل تفاصيله، يعكس تحولًا آنيًا من تحوّلات النكبة، ويجسد المقولة الفلسطينيّة "النكبة مستمرة".

مقابل هذا العمل – وهو ليس فيلمًا سينمائيً محضًا إنما عمل فنيّ يرتقي للمستوى السينمائي- يقف فيلم "فرحة" للمخرجة دارين سلّام، فيلم روائي طويل يفتقد للكثير من المقومات التي تجعل منه فيلمًا جديرًا بالإِشادة، ويثير النقاش حول حتميّة الالتزام بمعايير فنية وضوابط مضامينيّة عند طرح النكبة في الفيلم الفلسطيني.

اختتم فيلم "فرحة" مهرجان "أيام فلسطين السينمائية" في رام الله في شهر تشرين الثاني 2022، لكن صيته ذاع عند بدء عرضه على منصة "نتفليكس"، ومطالبة  أفيجدور ليبرمان شطب الفيلم ووقف عرضه واتهمه بتشويه صورة الجيش الاسرائيلي وتزييف الحقائق. إن ما فعله أفيجدور ليبرمان أسهم في رفع منسوب المشاهدات للفيلم، لكنه أساء لتقدّم عجلة السينما الفلسطينية التي تسير ببطء شديد؛  كون موقفه عاد

بأعداد هائلة من الأصوات المؤيدة والمناصرة والمشجعة لعمل سينمائي رديء جعل ثيمة "النكبة" موضع طرح سطحيّ.

لا تقوم رواية المشروع الصهيوني وقيام إسرائيل كدولة تحقق حلماً قومياً وتاريخياً لليهود بمعزل عن وجود رواية النكبة، وان وجود رواية شفوية حاضرة بقوة في فلسطين ومخيمات اللجوء هي مصدر قوة لصانع الأفلام الفلسطيني، ولذلك ليس غريبًا أن تبرز بين فترة واخرى محاولات جادّة في التصدي للرواية الفلسطينية، سواء من خلال تشريع برلماني او تصريح، أو من خلال تجييش الجمهور وتجنيد الأقلام لكتابة مقالات تقف بالمرصاد لهذه الرواية.

تكمن مشكلة فيلم "فرحة" – من وجهة نظري- في حالة العلاقة الهلامية بينه وبين النكبة، فاذا ما قمنا بتفكيك مشاهد الفيلم والحوارات وتطوّر الحبكة وتأزمها وعلاقة كل ذلك بالرواية الفلسطينية الوطنية الجامعة، نرى انه بمعزل عن النص الذي يظهر على الشاشة في نهاية الفيلم ويشير الى صاحبة القصة الاصلية؛ فإن القصة التي تلقاها المشاهد تسبح في فضاء قد يُذكّر بالنكبة من يعي تفاصيلها وحيثياتها، لكن لا يَذكُرها، وبذلك لا يضيف الجديد لمن لم لا يعلم شيئا عن هذا الجزء المصيري من التاريخ الفلسطينيّ. فيلم "فرحة" هو حكاية شخصيّة جدًا لفتاة يحمل اسمها معاني التفاؤل، تعيش في مكان ما يكتفي سكانه بتسميته القرية، وتطمح بمتابعة دراستها في المدينة، دون ان تكون للقرية والمدينة هوية واسم ومكان جغرافي واضح يمت بصلة لفلسطين، مما يجعل نموذج الفتاة الطموحة المدركة والواعية الراغبة بتأجيل زواجها وإقامة مدرسة في قريتها، الفتاة التي تشتم جيشًا محتلًا بشيء من العنفوان، صالحًا لأن يكون نموذجًا يناسب أي فتاة في الوطن العربي وليس فلسطين حصرًا. ومن يعتقد أن ِبعض الجمل باللغة العبرية ونجمة داوود على طرف البزة العسكرية لعدد من الجنود ينقل الفيلم من الضبابية الى وضوح العلاقة مع النكبة فقد أخطأ!

هذا الفيلم يثير عددًا من التساؤلات: هل يتفادى فيلم "فرحة" التسميات الصريحة؟ هل يخشى المباشرة والوضوح في الأماكن والأحداث؟ هل تعمّد أنسنة جندي العصابات الصهيونية من خلال تصويره يبكي ويمتنع عن قتل رضيع؟ هل وجود المتعاون الفلسطينيّ في مشهد طويل ومركزيّ يشير إلى أن العمالّة كانت سببًا مهمًا في تهجير القرية وقتل الناس؟ هل النظر عبر ثقب الباب هو إشارة إلى قلّة الحيلة الفلسطينيّ أم إلى وجود شاهد حيّ؟ هل حضور الدورة الشهريّة هي مجرد مرحلة في حياة فتاة أم إشارة لنضوج جسديّ وفكريّ ووطنيّ سيحمل بطلة القصة الى أبعاد أخرى؟ إن خيارات المخرج في كل ثانية تظهر أمامنا على الشاشة هي رسالته، وأرى هنا تخبطًا صارخًا في تحديد الرسالة!

اذا ما عدنا بالوراء نحو تاريخ السينما، نرى أنه منذ نشأتها آمنت منظمة التحرير الفلسطينية بقوة السينما ودورها في توثيق التاريخ والتأثير على الرأي العام، وأدرجت العمل السينمائيّ ضمن فعل المقاومة. لقد أقامت المنظمة وحدة سينما فعّالة جمعت خيرة المصورين والمخرجين من فلسطينيين وآخرين، وانتجت اعدادًا من الافلام التي يمكن اعتبارها مصدرًا ملهمًا ومهمًا لدراسة السينما الفلسطينية وممارستها وتطورها. ــإن استمرار الانتاج السينمائي الفلسطيني رغم كل الانتكاسات- يبعث الأمل، وقد عرف التاريخ الفلسطيني فترات أنشأت فيها وحدات إنتاج سينمائي تابعة لعدد من الفصائل الفلسطينية، تناولت قضايا الأرض والتهجير واللجوء، واجتمعت على الهوية الفلسطينية والانتماء للأرض والمقاومة من أجل تحقيق المشروع الوطني التحرري.

اذا لم يعرف المخرج الفلسطيني اليوم ما قدمه السابقون من أفلام عالجت قضية النكبة والتهجير، فلن يتمكن من متابعة البناء والتطوّر السردي الفلسطينيّ القيّم الذي بدأته اسماء مهمة كجزء من عملية المقاومة الثقافيّة.

في المقابل على السينمائي الفلسطيني ان يكون ملمًا بالسينما الصهيونية التي قدمت أفلامًا عديدة عن بناء الدولة، والهجرة اليهودية إلى أرض فلسطين، والتي يظهر الفلسطيني  في بعض منها بلباسه العربيّ التقليديّ كعامل في الميناء أو في البناء أو فلاحًا في الأرض. يجب أن يخلق صانع الأفلام الفلسطني عملًا راقيًا يكون ندًا لكل رواية مشككة في صدقيّة روايتنا، أي أفلامًا قويّة تقوّض الرواية التي تدّعي بأنّ فلسطين كانت "أرضًا بلا شعب".

اختار المخرج ميشيل خليفي – وهو أول من طلائعي السينما الفلسطينيين من حملة الجنسية الإسرائيلية -  أن يقدم باكورة أعماله أفلامًا تحدثت عن ومع وإلى من عاشوا النكبة وأخرج رسالتهم وروايتهم إلى المشاهد أينما كان، لا يمكن أن يتفادى المشاهد حوارًا ناريًا بينه وبين أحد مهجري سكان قرية معلول المهجرة (قضاء الناصرة) وهو يتحدث عن علاقاته مع وعد بلفور في فيلم "معلول تحتفل بدمارها"، إن هذا الربط ما بين الحدث التاريخي واسقاطاته الكارثيّة على الفلسطينيين كفيلة بأن تجعل المشاهد يفهم معنى النكبة. حتى في اختيار اسم الفيلم هناك تناقض صارخ جذاب بين مصير كل قرية مهجرة ومشاعر مهجريها خلال احتفالات يوم الاستقلال الاسرائيلي.

كذلك فعل المخرج إيليا سليمان في طرحه الذكي والمُمتع سينمائيًا لكيفية استحضار القضية الفلسطينية في أفلامه، حيث يبرز موضوع النكبة بشكل خاص وواضح ومباشر في فيلم "الزمن الباقي"، ولا يخشى من الإشارة الى شرعية المقاومة المسلحة. أبدع سليمان في وصف العلاقة الآنية مع المحتل ومناهضة روايته، ثم أغدق علينا تفاصيل تاريخية أصيلة ليُتم رواية تربط الماضي بالحاضر، وتعكس ما آلت إليه أوضاع الفلسطينيين الذي بقوا في أرضهم بالكثير من الدقّة والإخلاص. وفي أفلامه الأخرى يضيف أبعاداً جديدة تتفق مع تحوّلات القضية، ويقدمها للجمهور مثقلةً بالرمزية التي تفرض على المشاهد فهم خلفية الصراع.

قد يبدو النص أعلاه كمقارنة غير منصفة بين مخرجة شابة ومخرجيّن عريقيّن، لكن هدفي هو إثارة النقاش حول التعاطي مع قضايا مصيرية في السردية الفلسطينية، وكيف يمكن أن تصل الأفلام لفلسطينية الى العالمية وهي قادرة على منافسة صناعات عالمية مدججة بالكثير من التمويل. أنا أرى أن صناعة الأفلام في فلسطين مجبرة بالتعامل مع النكبة – والأسرى كذلك- بحسّاسية عالية، وبسيناريوهات تحمل موقفًا شخصيًا مناصرًا، وحوارات مدروسة بدقّة مخلصة للرواية الجمعيّة، والتزام بخطاب يتمتع بالصدقيّة والنديّة. كل هذا مع التزام كبير بمستوى فني عالٍ، واختيار دقيق لكل تفصيل وعدم التنازل بحجة شح التمويل او قلة محترفي الصناعة السينمائية.

لا ينقص مخزن الأفلام الفلسطينية مزيدًا من الأعمال الركيكة والسطحية التي تتعاطى مع قضايا متعلقة بالصراع أو بالوجود الفلسطيني. إذَا؛ فإن الرغبة في إخراج فيلم يتحدث عن النكبة ليس انجازًا بذاته، بل هو فعل يجب أن يتم بالكثير من المهنيّة والمسؤولية، لذا يتوجب أن تترافق عملية كتابة السيناريو بدراسة معمّقة للتاريخ، ومعرفة أسماء ووظائف الشخصيات الفاعلة سواء فلسطينية أو اسرائيليّة، والالمام بمصادر وثقت الرواية الشفوية وحفظتها، والقدرة على غربلة المعلومات ووضعها في نصابها الصحيح خاصة تلك التي تتّسم بالسلبيّة تجاه بعض الشخصيات الفلسطينية او العربية، ومصارحة الذات بالدوافع الشخصية من وراء صناعة الفيلم. لا يكفي ان يختار المخرج وكاتب السيناريو موضوعًا جذابًا يجد له حضنًا دافئا في أوساط الممولين العرب او الأوروبيين المناصرين للقضية الفلسطينيّة، ونسب مشاهدة عاليّة مرتبطة برواج ودعم جماهيري مندفعٍ عاطفيًا.

اختيار موضوع النكبة واخضاعه للمعالجة السينمائية يجب أن يتفق مع الأساليب المعاصرة والآليات الجديدة على المستوى البصري والاخراجي والمحتوى. وألا يضع الجمهور الفلسطيني والعربي المتضامن أصلًا مع القضية الفلسطينيّة- نصب عينيه، بل ان يوسع افاقه لينجح الفيلم وقصته في مخاطبة عقول الجماهير أينما كانوا، وأشدد هنا على ضرورة مخاطبة العقل لا العاطفة من خلال تسلل أحداث يُثري الخيال ويدفع المشاهد للتفكير وتحليل كل تفصيل وارد وإيجاد معانيه المبطّنة.

إذا اعتمدت مُسمى الجيل الجديد في السينما الفلسطينية، فهو جيل جريء في طرح قضايا اجتماعية إلى جانب السياسية، غذّى الإنتاج السينمائي الفلسطيني في السنوات العشر الأخيرة بأعمال تنوّعت بين الوثائقي والروائي القصير والطويل، وكان الروائي أكثر حظاً في الوصول إلى المهرجانات العالمية وحصد الجوائز التقديرية. من المفيد أن يكون الجيل الجديد من صناع الأفلام الفلسطينيين مُخلصًا للقضية السياسيّة، يؤكد أن النكبة لم تكن حدثًا تاريخيًا ماضيًا إنما تحدٍ وجوديّ يومي.
 لا شك في أنّ الأحداث السياسية المتعاقبة، وغياب صندوق دعم فلسطيني للسينما، أحدثت تباطؤاً قسرياً في تطوّر  الصناعة السينمائيّة، ولكن الإصرار على متابعة الإنتاج ضروري للإبقاء على القضية حيّة خاصة في الوقت الذي تزداد فيه امكانيات الانفتاح على العالم، وتزايد الأساليب غير المكلفة في صناعة الأفلام، ووجود منصات الكترونية لنشر الإنتاج الثقافي الفلسطيني. ان اختيار "نتفليكس" لإضافة أفلام فلسطينية هو لا شك خاضع لرؤية تجارية وتسويقية، لكنها من جهة صانع الفيلم الفلسطيني وسيلة لحشد المزيد من التضامن، وهذا مرتبط بلا شك بوجود صانع أفلام مثقف ومبدع وواعٍ وعنيد يعي تماماً أن للسينما دوراً بارزاً في المشروع الوطني.

من بالغ الأهمية أن نعي وجود مسعى مستمر لنزع الشرعية عن الخطاب الفلسطيني وطمسه. فالمعرفة أساس البناء الجاد، إذ لا يمكن التأثير على صياغة مفاهيم الجمهور في اسرائيل والعالم حول النكبة وتداعياتها من خلال اعمال سطحية، أو أعمال مستنسخة عن سابقاتها، أو أعمال تكتفي بحصر النكبة في جملتين تتذيلان الفيلم.

جميع الحقوق محفوظة © 2024