استحضَرَ والدي من ألبوم ذكرياتِ طفولةٍ يتيمة الأب حكاية وقال: كنت في الصف الرابع الابتدائي لمّا بكيت امام أمي ذات صباح راجيا اياها ان تعطيني ثمن كتاب، وقلت لها اني القى معاملة فظة لمرور شهرين ونيف على بداية السنة الدراسية وانا دون كتاب. فكان اقتراحها بسيطا: اخرج للكروم المجاورة واقطف ما استطعت من العلت والخبيزة والحميض وبعض اللوف وامضِ ببقجتك الى سوق الناصرة، بِع محتواها هناك واشتري بثمنه كتابك.
هكذا تمكن والدي من شراء كتاب، بفضل ما جادت به الارض عليه، عاش بعضا من مقتبل حياته فلاحا؛ وأمي كذلك، احترفت الفلاحة منذ ولادتها حتى زواجها؛ فورثت أنا منهما كثيرًا من الحب للزراعة وبعضًا من الحكايات الجميلة التي اتلذذ بالاستماع اليها مرارًا وتكرارًا، وخاصة تلك التي تحوي في سطورها أسماء نباتات لم أرَ ايا منها في حياتي، وإن كنت رأيت فإني أجهل مسماها على ألسن الفلاحين.
تنافس والديّ فيما بينهما أحيانا لتعليمي واخوتي دروسًا عن خيرات الارض التي ابتعلت المدنية والعمران سهولًا واسعة المساحة منها وكذلك الغذاء، فغابت بذلك أعشاب كثيرة عن مطابخنا.
امضيت حياتي – حتى اليوم- جارة للوعور، اخرج اليها احيانا كثيرة بعد وجبة مطر لجمع ما يطيب لي ان اسميه "الاورجانيك الوحيد الباقي" فتختبرني والدتي وتبدأ تحقيقًا لذيذًا في معرفتي عن شكل وطعم السناريّة، والصنيبعة، والقصيقصة، والخُردلّة، والبليبلابوز، والقرصعنّة، والبُسباس، والخُشيفة، والعوّينة، والفرفحينا، ولا تبالي بالشومر والخُرفيش، والهليون، والسِلِق واللسيّنة والعكوب ودُقة العدس ليقينها بأني أعرفها شكلًا ورائحةً وطعمًا.
يبتُر كل هذه المتعة في وصف الجمال الأخضر، والإرث الإنساني إعلان بالعبرية يداهمني تكرارًا عبر موقع للتواصل الاجتماعي داعيًا لاختبار تجربة يسميها "التلقيط" ويعني بها قطف كميات صغيرة للاستهلاك الفردي من أعشاب البر الصالحة للأكل. يستفزني الإعلان الذي يحوّل جزءًا من يومياتنا الشتوية – الربيعية الى هدف لقناصة الاحتلال الثقافي الذين لم يكتفوا بسرقة نَسب بعض المأكولات الشامية الشهيرة كالفلافل والحمص، وسوّقوها للعالم الغربي كمأكولات إسرائيلية أصلية؛ بل حولوا عاداتنا ومصدر مأكولاتنا الموسمية الى "مغامرة" يهدف بعضها للتسلية والربح وبعضها الاخر لاقحام روح انتماء عنوة لهذه الارض.
خرجت لجولة افتراضية في رحاب مواقع التواصل الاجتماعي فاصدمت بعشرات الدعوات الشبيهة للمشاركة في رحلات "التلقيط"، وهناك من جازف فاقترح دورات متعددة اللقاءات لإحسان اختيار النباتات القابلة للأكل وكيفية إعدادها، ودُعي الجمهور الى التواصل مع الارض والتعرف على اعشابها وقطف وصفات غير مصنعة للطبابة والشفاء.
بادرت للتسجيل لاحدى هذه الرحلات لمعرفة محتواها، فتلقيت ردًا يضم عنوان موقع الكتروني خاص يسوّق لفكرة "التلقيط" ويشرح للجمهور ماهية العملية وفوائدها وضرورة نشر المعرفة حولها، وعرض مقترحات لورشات عمل ومحاضرات لمعرفة النباتات الصالحة للاستخدام البشري ومواسم قطفها، ولرفع منسوب الإثارة يعرض الموقع تحويل العملية الى مغامرة للمناسبات الخاصة كالاحتفالات بالبار متسفا (بلوغ جيل الـ 13) أو حفلات انتهاء العزوبية واعياد الميلاد. يشمل المقترح جولة ارشادية وقطف بعض الاعشاب وتحضير السلطات منها.
سُجلت أسماء النباتات والأعشاب على لسان احد المُرشدين وهي في معظمها عربيّة شاميّة، سرقوا أسماء النباتات كون قاموسهم يفتقر اليها، وليس بغريب لو سوّقت هذه الأخرى للعالم الغربي مستقبلًا كإرث إسرائيلي!
كيف وصلت هذه الأعشاب وطرق إعدادها إلى الأيدي الإسرائيلية؟ وكيف باتوا يعدّون فطائر الزعتر وحوسة الخبيزة في مطابخهم؟ أتساءل. وكيف حوّلوا خروجنا الى الحواكير المجاورة لبيوتنا الى "رحلة كولينارية"؟
فكرت بأن الفلسطيني في الداخل يتحمل جزءًا من المسؤولية حينما يبادر الى الافتخار بمأكولاته الشعبية، إلى درجة تثير فضول وشهية الآخرين فيسارعون الى طلب تفاصيل الوجبة. وحينما يشارك الطهاة في برامج تلفزيونية ويقدمون الاطباق الشعبية لنيل استحسان لجان التحكيم فإن في ذلك أيضًا مخاطرة بتعريضها للسرقة!
لكن مرشد الرحلات عزام حلبي ابن دالية الكرمل يخالفني الرأي في الفكرة التي غزت رأسي ويقول كهاوٍ للزراعة مطلّع على النباتات وسحر الطبيعة: لا اعتقد ان الاسرائيلي بحاجة لمن يسهل له الطريق ويعطيه أفكار لانه دائم البحث والاستقصاء بالذات في كل ما يتعلق بالارض والسبب معروف. لا اعتقد انه جدير بنا إخفاء مأكولاتنا بل على العكس علينا مسؤولية عرضها والافتخار بها ونقلها من جيل الى جيل. اذا تنازلنا عن مأكولاتنا وتوقفنا عن اعدادها سيأتي غيرنا ويأخذها ويسجلها باسمه، السؤال الاساس هنا الى اي مدى نحن متمسكون بمأكولاتنا الشعبية وحريصون عليها من السرقة والضياع.
وعن ابتكار رحلات "التلقيط" يقول: اعتقد ان ما يعرضونه من رحلات وورشات لقطف الاعشاب هي فكرة عظيمة وعلينا نحن تبنيها أيضا واستعادة ارتباطنا بجذورنا وثقافتنا. هناك قلة من الشباب والصبايا الذين يشعرون بالانتماء وحب الطبيعة يجب الاستثمار بهذه الفئة كي نضمن استمراريتها وزيادة عددها. أنا أرى أن كل فعل يقوم به الطرف الآخر يجب أن يقابله رد فعل منّا لتعزيز ثقتنا وعلاقتنا بالأرض وخيراتها.
هناك فرق كبير بين تجربتنا طبخ هذه الأعشاب والنباتات في بيوتنا وبين من يختبرها باعتبارها تجربة ممتعة، الحدي يدور هنا عن طعامنا العادي، فنحن نشتهي هذه الاطعمة ونتلهف لقطف هذه الاعشاب في موسمها. الفرق الذي يجب ان يُشار اليه في هذا السياق بأن هناك شعب بنى حياته على هذه النباتات ولولا وجودها لشعر كثيرون من أبناء شعبنا بالجوع في الماضي. لكن في الثقافة الاسرائيلية هناك رغبة في عرض نوع من الارتباط بالارض وفرض ملكية عالارض من خلال التسلّح بالمعرفة.
أي أن للسياسة مكان في كل هذه الرحلات والورشات؟
حلبي: طبعًا. لكن معظم هذه الورشات تنتهي بإعداد سلطة او تذوق نباتات متعددة ولا تنتهي بغذاء متكامل يمكن الاعتماد عليه للمعيشة كما هو الامر في ثقافتنا ومطبخنا. لدى العديد من شعوب العالم عادات شبيهة، فاليهود الذين قدموا للبلاد من الاتحاد السوفييتي السابق لديهم عادة قطف الفطر (الماشروم) وقد تأثر المجتمع الاسرائيلي منهم، الفرق بيننا وبين هؤلاء أيضًا أن موسم الفطر قصير، لكن نحن نعرف بأن كل فصل له اعشابه ونباتاته التي نزيّن بها موائدنا.
لقد وجد القانون الإسرائيلي، وسلطة حماية الطبيعة وسيلة لحماية هؤلاء الذين يخرجون بمجموعات منظمة لقطف خيرات البر التي ندفع نحن ثمنًا لقطفها على شكل مخالفات مالية تحررها سلطة حماية الطبيعة المعززة بقانون حماية النباتات البرية.
في آب 2019 توجه مركز "عدالة" القانونيّ الى وزير حماية البيئة وسلطة حماية الطبيعة مطالبًا بوقف أمر منع قطف ثلاثة نباتات يتميز بها البيت الفلسطيني: الزعتر والعكوب والميرمية. فعلى مدار سنوات منع قطف هذه النباتات من أرض "الدولة" والمحميات الطبيعية والأراضي المفتوحة، وكان الفاعلون يتلقون مخالفات من قبل مراقبي السلطة، وكذلك غرامات مالية وتقديم للقضاء تهمة ارتكاب جناية مهما كانت كمية النبتات التي تم قطفها صغيرة، بادعاء أن هذه النباتات مهددة بالانقراض!
في أعقاب توجه "عدالة" أصدرت سلطة حماية الطبيعة مرسومًا يتيح قطف كميات صغيرة من هذه النباتات الثلاث، بحيث تم السماح بقطف العكوب، واقتصار قطف الزعتر والميرمية على ما سميّ "كمية للاستهلاك الفردي"، لكن الجمهور الذي خرج الى الجبال والوعور في الموسم اكتشف بأن الحديث عن كميات محددة وفق أماكن القطف ومن بينها 1.5 كيلو للاستهلاك المنزلي – كما قدروها! في آذار 2020 توجه المركز من جديد لسلطة حماية الطبيعة والمستشار القضائي للحكومة للمطالبة بالوضوح في اصدار التعليمات وتطبيقها، بعد ان تم الكشف عن احصائيات الأعوام 2016 حتى 2018 والتي وصل عدد لوائح اتهام اشخاص بقطف العكوب وتجارته الى 26 لائحة، اضافة الى 151 غرامة مالية. (لقراءة تقرير مركز مدار حول الموضوع)
في موقعها الالكتروني نشرت سلطة حماية الطبيعة مادة حول النباتات الثلاث، وتم التأكيد فيها على ضرورة الارتباط بالارض ونباتاتها والحفاظ عليها من أجل الأجيال القادمة (للقراءة حول الموضوع)، وهنا يجدر السؤال: كون الزعتر والميرمية أعشاب عطرية واستشفائية ويمكن استخدامها كنتوابل، لكن من بين ملايين العائلات الاسرائيلية هناك من يقوم فعلا بقطف العكوب وتنظيفه من أشواكه وطبخه إلى جانب طبق من الأرز؟ أم أن الجمهور المقصود بالاستبعاد عن القطف، والحرمان من أكله تميل للنُدرة هو الفلسطيني فقط؟!