مدججة بالجرأة والتحدي، مدفوعة بغضب لم تهدأ ناره بعد، تنطلق المخرجة في رحلة لمحاسبة الماضي من خلال البوح بتفاصيل لا تزال تفتح جروحًا في الروح والنفس، جروح تأبى الشفاء في علاقتها مع والدتها، وهي كمثل علاقة تنسخها النساء من جيل الى جيل في مجتمعاتنا الشرقية، فيها تكرّس النساء انماطًا من القهر، يذوّتن القمع، ويفرضن الرقابة الذاتيّة على أنفسهن.
في دقائق الفيلم الأولى تفتتح المخرجة بطرح تساؤلات لم تنل فرصة طرحها مباشرة على والدتها التي غادرت الحياة: "ليش لازم أخاف من جسمي وأغطيه، وأخاف من صوتي وأوطيه، وأخاف من ضحكتي فأكتمها، وأخاف أحب لأن الحب ممنوع. كنت دائمًا تقولي شهادتك علقيها في المطبخ فالبنت ما بنفعها الا بيت زوجها"!
تذكر بهذه المقولة - التي تصاحبها صور لبطنها الحامل في شهور متقدمة- بعضًا مما يقرر مكانة المرأة في مجتمعاتنا، الجسد وكل ما يرتبط به من مغريات تدفع بالرجل للاقتراب منها، فيأخذ هذا الأمر بعدًا مرعبًا بدلًا من فطرة الإنسان الطبيعية المتمثلة بتبادل الحب. ويصبح الجسد الأنثوي مقتل صاحبته، وتهدد استداراته الطبيعية كرامتها وكيانها من خلال جرائم التحرش الجنسية.
في تنقلاته ما بين قصة المخرجة الفردية وقصص النساء أجمع، يرصد الفيلم لقطات مرعبة وعظيمة القوة حول ما تتعرض له النساء المصريات من جرائم التحرش، شهادات مخيفة لنساء يسردن على مسامعنا ما كنّ شاهدات عليه من جرائم بأجسادهن وروحهن وعيونهن خلال ثورة المصريين ضد النظام متقلّب الحكّام.
تسير قصتّان في هذا الفيلم، قصة جرائم التحرش في الشارع المصري من خلال شهادات تجمعها المخرجة، ومحاولات لمقاومة هذه الحالة الوبائية من خلال مسيرات ورسومات وتحركات لرفع الوعي، ورفع الصوت والاعلان عن إرادة النساء تشكيل قوة وحضور في سيرورة الثورة؛ وقصة المخرجة التي تجمع ما بين اضهادها السابق المتمثل في تزويجها، وفرض الحجاب عليها، ومنعها من الدراسة وتلقينها دروسًا في طاعة الرجل والخضوع له؛ واضطهادها الحالي المتمثل في تعرضها للتحرش والمضايقة خلال تواجدها في الحيز العام. تحمل قصص النساء في عائلتها، أختها التي أصبحت جدة في جيل مبكرة، وإبنة أختها الطفلة التي اصبحت أمًا تقول أن وليدتها تسليها اذا ملّت! عالم مليء بالحكايات المؤلمة المحصورة بين مطبخ وغرفة معيشة، يتوارى ألمها بين الابتسامات.
تحمل المخرجة كاميرتها وترفعها سلاحًا في وجه المتحرشين بها، ترصد بها ما يدور في فلك النساء من أفكار ومعتقدات حول ارتباط الملابس بالمصير، فهذه تهددها بنار جهنم، وأخرى تقول أنه لا يجوز أو عيب، وتلك تنظر لخلع الحجاب كذريعة للطلاق.. كل هؤلاء النسوة مقابل أخريات ثائرات ضد الخضوع بكل أشكاله، تنطلق حناجرهن المغطاة بأطراف الحجاب بالشعارات التي ترفض تحوّلهن الى فرائس.
رغم أن المواد المصورّة تحمل الكثير من الأهمية الا ان انسجامها معا في خط سردي يعكس مقولة واضحة كان فقيرًا، لم تتوقف المخرجة لتبحث في عمق القضية وأصلها، سارت على حدود السطح وقدمت شهادات ومعلومات لكنها لم تنبش في الحقيقة وفي الذي يدفع الرجال للاقتناع بأن المرأة "عرّة وعار" وأن حواء خلقت من ضلع آدم؛ لم تستوقفها الشعارات التي نادت بها النسوة خلال احدى المظاهرات صارخات "هً نحافظ على عذريتنا" وكيف ترتبط العذرية بالقمع؛ لم تعد بالزمن الى ما قبل الثورات والمظاهرات في مصر وتجذّر جرائم التحرشات هناك، وأظهرت لنا الأمر وكأنه محاولات لقمع الثورة من خلال استخدام النساء كدروع بشرية في أفظع صور الاستغلال، وأن الأخوان المسلمين أعاثوا الفساد في حرية النساء وأتاحوا لأنصارهم سلب النساء حقهن في سلامة أجسادهن- وكأن حقبة مبارك ومن سبقوه خلت من ذلك، ألم يقدم علي بدرخان هذه القضية في واحد من أقوى أفلامه "الكرنك" حيث تقوم المخابرات باغتصاب المعارضة! إن حالة الفوضى التي سادت في الشارع المصري مع انطلاق الجماهير الى الشوارع غذّت الكثير من الغرائز التي تفتقد للانسانية وكانت النساء ضحايا لها؛ كما هو الحال في حالات الحروب؛ لكنها لم تكن السبب الرئيسي.
نسير مع هذا الفيلم كما لو كنا نستقل قطار جبال، يرفع مستويات غضبنا ضد ما نرى، ويبني حالة من التعطاف من الضحايا، ثم يهوي بنا نحو تفاصيل صغيرة لا تسند الفيلم، فنخرج منه مع شعور بالارتجاج الذي سرعان ما يتبدد.