بعد أن تخطى الـ 70 مليون مشاهدة على منصة "نتفليكس" أصبح المسلسل الفرنسي "لوبين" حديث الجمهور، وهو تقديم جديد لرواية بوليسية قديمة تعود الى العام 1905 من تأليف موريس لوبلان الذي أطلق للعالم شخصية اللص الذكي الذي يستهدف الأغنياء وصاحب القدرة على تقمص الشخصيات المتعددة "أرسين لوبين".
عندما تفتتح مسلسلا باستعراض بدء وردية لعامل نظافة من أصول افريقية يعمل في أهم المتاحف في فرنسا تصاحبها موسيقى مختارة بعناية؛ فإن الطريق الى قلوبنا سهلة. يتبعها وقوف في حضرة الموناليزا لعامل النظافة البسيط يثير فينا الاحساس بأنه ليس مجرد عامل بل شخص يخبئ تحت هذه القبعة عقلا بارعًا في قراءة الفن- ربما، ثم يختار المخرج والكاتب ان يرفعا مستوى توترنا فيقدمان لنا مشهدا يلتقي فيه عاملا نظافة في بهو فخم في متحف عملاق تتوسطه علبه زجاجية تحمي بداخلها قلادة من الالماس تعود للملكة ماري انطوانيت، تحفة فنية توقظ شياطين السرقة في نفس اقل الناس جموحا وطمعا.
هنا يُطلق العنان لرواية انتقام بدأت قبل أكثر من 25 عامًا.. أسان ديوب، زوج كلير الفرنسية ووالد راؤول. مهاجر من أصول سينغالية أتى الى فرنسا مع والده باباكار بعد أن فقد والدته. عمل والده سائقا لدى إحدى أكثر العائلات نفوذا وثراء في باريس، عائلة بليغريني. تتألف هذه العائلة – كما في أعداد لا تحصى من الاعمال الفنية – من رجل ثري جشع، وزوجته وابنته اللتان تتمتعان بالذوق والإنسانية واللطف والكرم؛ كيف لا، وعلى الدراما أن تقدم التناقضات كي تخلق الإثارة.
يتهم بليغريني سائقه باباكار بسرقة قلادة تقدر قيمتها بملايين اليوروهات، ورغم أنه لم يفعل، يتم يسجنه ويوقع على اعتراف بجريمة لم يرتكبها، ثم يقرر الموت انتحارًا في سجنه، تاركا وراءه بعض الرموز لابنه الوحيد الذي سيعارك الحياة على طريقته الخاصة لإعادة الكرامة لوالده الميت البريء من تهمة السرقة.
يتمتع أسان الفتى بالهدوء، والاستقلالية، والذكاء. ومع تقدمه في السن يحظى بالقدرة على خفة الحركة كساحر، فيستثمر هذه القدرة في رحلته الطويلة لإثبات براءة والده ودفاعًا عن سمعته الطيبة. كل هذا مصحوبًا بأفعال مستوحاة من روايته المفضلة "أرسين لوبين- اللص المحترم".
يوفر المسلسل جميع العناصر التي من شأنها أن تأسر المشاهد: رواية تاريخية ذات شعبية كبيرة، فتى مهاجر ويتيم، ثري ظالم وفقير مظلوم، سجين بريء ووريثه الساعي وراء الحقيقة، وحلقة أولى تنتهي بمقولة: Je sui Lupin (أنا لوبين) لنعرف بأننا على موعد مع قصص السرقات والحيل الشهية الذكية.
هذا العمل يتحوّل الى سلسلة تشويق متوسطة النضج حينما لا يًبدع كاتبا السيناريو جورج كاي وفرانسوا أوزان في تحدي المشاهد وذكاءه، فيقدمان لنا كما سبق وشاهدنا في أعمال كثيرة سابقة، سباق الزمن بين اللص والشرطة، وكيف يتفوق اللص دائمًا رغم كل ما تملكه أجهزة الشرطة من تقنيات وامكانيات مادية وطواقم مقابل رجل واحد، تفاصيل صغيرة عديمة المعنى – كمحاولة ابتزاز الشرطي بالسؤال عن مشاهدته للفيديوهات الإباحية- تفتح الطريق امام لص لدخول قسم الشرطة واختطاف أحد أعرق ضباطها! ثم تكرار النجاح بالهروب من مقر الشرطة دون عراقيل، رغم وجود شرطي لمّاح متنبه لوجه الشبه بين مسار ديوب وسلسلة اللص لوبين، الا انه – بسبب رتبته المهنية، وربما لأسباب أخرى – لا يحظى وتحليلاته النبيهة بأي اكتراث من قبل قاداته، بل على العكس. هذا يمنح المزيد من الوقت لبطلنا للمضي في عملياته الاستخباراتية المثيرة، ولنضحك نحن بخبث، بعضنا يريد لأسان النجاح في خطته وبعضنا الآخر يريد للشرطي إثبات نظريته.
صحيح أن تطور الدراما وتتابع الرواية وحبكة تفاصيلها في مسلسل قصير نسبيًا- تهدف لابراز صورة اللص الخلوق الذي يحبه الناس ويتعاطفون معه لأنه يخرج للحرب ضد الأثرياء الأشرار الذي يصنعون مجدهم المالي على حساب الناس البسطاء؛ إلا أن المبالغة في بعض المشاهد من جهة، ووجود شخصيات وأحداث مألوفة للمشاهد؛ تكون الحد الفاصل ما بين اعتباره مسلسلًا جيدًا او عاديًا.
فها هو شرطي فاسد آخر يريد تأمين حياة كريمة لعائلته، وهاي هي صحافية جريئة تبدو مألوفة لنا تحاول الوقوف بالمرصاد لـ "حوت" فاحش الثراء يعبث بمصير الناس عبر التجارة بالأسلحة، وها هو المال – كما في الواقع - يشتري وسائل الإعلام ويفرض عليها أجندته فتبث سمومه على شكل برامج حوارية أو إخبارية أو ترفيهية.. فما الجديد في هذا المسلسل؟
هذا المسلسل في نهاية الأمر حرب بين رجلين، تعثر فيها اخرون برضاهم او مرغمين، هي قصة خضوع البشر لسلطة المال حيث كل شيء قابل للشراء حتى الكرامة. هي قصة عن قوة الجَشِع وضعف الصادق وبعض الامل الذي يخبو حين يصحو الشر، ويبدو أن البقاء للشر، فختام الرواية يراد به استمالة للجمهور لانتظار جزء متوقع اخر تعود فيها رحى الحرب الى الدوران، يستمر بليغريني في حربه للنيل من ديوب ويستمر ديوب في ابتكار خدع وشخصيات لاثبات صدقه وانقاذ ابنه، هكذا يبقى أسان ديوب بطلًا أبديًا.
عمر ساي جذّاب كممثل يؤدي دوره بجمال وبراعه، لكن مآخذي على ساي واختياره للدور وعلى المسلسل عموما تتلخص في ثلاثة جوانب:
- عمر ساي فرنسي من أصول سينيجالية، وقد سبق أن تم استثمار هذه الحقيقة من قبل في أعمال فنية من بطولته، وما استثمارها هنا الا تكرار لا فائدة خاصة ترجى منه. إن المهاجرين الأفارقة في فرنسا ومعاناتهم جراء العنصرية أعمق بكثير من اختصارها بالسينجاليين دون غيرهم، والسطحية التي تقدم بها هذه المعلومة في المسلسل تظلم المهاجرين ولا تنصفهم. إضافة إلى ذلك، يبدو أن جسم ساي الرياضي لم يسعفه لتقديم دور رجل في الواحدة والثلاثين من العمر (بحسابات بسيطة) ويبدو أكبر سنًا وأقل رشاقة وقدرة من تأدية بعض المشاهدة.
- بات معلومًا ان انتاجات نتفليكس باهظة التكاليف، وكان من المجدي حقًا لو تم استثمار جزء من هذه التكاليف في ابتكار تقنيات لتغيير ملامح البطل عند تقمصه للشخصيات المختلفة، أما نراه هنا فلا يزيد عن مستوى حفلة تنكريّة يوم الهالوين! البراعة في التنكّر ليست مجرد خدعة هنا، بل فيها ما يقنع المشاهد بأن الحيلة تنطوي على أعداء ديوب، ولا يعقل أن يمتلك من الامكانيات التقنية المحوسبة والاختراق ولا يملك الامكانيات لتغيير ملامحه ببراعة.
-كيف يحوّل المخرج ومبتكر القصة عملًا من شيّق الى عادي أو أقل؟ ببساطة؛ بإضافة مشهد يقول لنا فيه: لقد اختطف بليغريني ابن ديوب ليخلق جزءًا آخر للمسلسل!