في العام 2008 أطلت علينا الممثلة اللامعة ميريل ستريب في الفيلم الغنائي "Mamma Mia" "من اخراج فيليدا ليود - بدور "دونا" - مغنية سابقة في فريق نسائي، تملك فندقًا تقليديا في احدى الجزر اليونانية ذات الطابع القروي، حيث تعيش كأم وحيدة الوالدية مع ابنتها "صوفي" ابنة العشرين. تنطلق القصة من رغبة الابنة في معرفة والدها، فتقوم بدعوة ثلاثة رجال لحضور زفافها بعد ان عثرت على اسمائهم وحكايات حب سريع ربطتهم بـ "دونا" من خلال دفتر مذكرات، تربي "صوفي" أملا في ان يكون احد الثلاثة والدها الذي سيسير معها نحو المذبح لتبدأ حياتها الزوجية محاطة بوالدة ووالد طال غيابه، لكنها في تصرفها هذا تعيد لوالدتها "دونا" – دون تخطيط مسبق- امكانية اتمام فصل مهم لم يكتمل من حياتها.
يعود اسم الفيلم " Mamma Mia" الى مسرحية غنائية وأغاني فريق " ABBA" العريق، ويتم توظيف أغانيه – بعضها مع تغييرات طفيفة- بما يتناسب مع سيرورة القصة، مصحوبا باستعراض ظريف لا يخرج عن اطار زمان ومكان الفيلم او تطور حبكته، لا يبدو الاستعراض مقحمًا بل يتطور برشاقة مع التطور الدرامي. تتضافر عناصر ناجحة من قصة إنسانية، وبعض التشويق، الى جانب الغناء والرقص ومواقع التصوير لتجعل الفيلم ممتعًا؛ إلا ان الشخصيات فيه ليست مركبة ولا تتجاوز مرحلة التحوّل البسيط وليد الظروف التي خلقتها مفاجأة لقاء "دونا" بماضيها واستعادة ذكريات تبلغ من العمر عشرين عامًا. يمكن اعتبار شخصية "دونا" الوحيدة التي يجوز وصفها بالشخصية المركبة؛ الا أننا كمشاهدين لم نشهد ذلك أهم مراحلها فالتقيناها ما بعد التحوّل الكبير الذي نستنتجه ضمنًا.
يحمل الفيلم منذ بدايته رسائل نسوية واضحة بدءًا من التصريح بأن هناك امرأة قررت المضي في حمل دون زواج وتربية ابنتها وحيدة، إعالة نفسها والطفلة ومحاولة الاستقلال ماديا الى ان تاتي فيه المرحلة التي تستعد فيها الابنة للاستقلالية والزواج. تتعزز هذه الرسائل كلما تعرفنا اكثر الى شخصية "دونا" التي تتسم بالشجاعة والجرأة المتمثلة بقرارها الاستغناء عن حلمها وترك فرقتها الموسيقية من أجل الامومة، الانتقال من مكان سكناها للعيش في مكان قروي ناءٍ عن الحضارة التي اعتادت عليها، وعنفوانها الذي يظهر في رقصها وغنائها.
تبعث حيوية "دونا" خلال المشاهد الاستعراضية رغبة في الانطلاق، حتى عندما تشكو من قلّة المال، وتتجسد حيوتها أكثر فأكثر عندما تستيقظ أرواح الحب فيها من جديد وتندفع في زقاقات الجزيرة نزولا نحو البحر مجتذبةً النساء الراغبات بالانعتاق من سجن المطبخ، كهذا حتى ينتهي المطاف بعشرات النساء اللواتي يقررن غسل أجسادهن وأرواحهن من كل عبء في ماء البحر.
ينتهي هذا الفصل من حياة "دونا" باستعادة الحب وبدء حياة زوجية.
بعد 12 عامًا أطلت علينا ستريب من جديد عبر شاشة نتفليكس في الفيلم الموسيقي" The Prom " (2020) من اخراج ريان مورفي- لتؤدي دور نجمة في مسرح برودواي "دي دي آلن". وكما هو الحال في اسم الفيلم السابق، يحمل هذا الفيلم اسم احدى أعمال مسرح برودواي الشهيرة، وتدور أحداثه حول مجموعة من نجوم المسرح المعروفين الذين يبحثون عن طريقة لإستعادة مجدهم بعد فشل آخر أعمالهم المسرحية وانتقادهم بشكل لاذع من قبل النقاد. فيجدون ضالتهم في قضية الفتاة "إيما" التي تُمنع من حضور حفل التخرج لكونها مثلية وسط مجتمعها في "انديانا" الذي يرى في هويتها الجنسية خطورة كبيرة.
تعتقد "دي دي" وزملاؤها أن قصة "إيما" أرضية خصبة لأداء دور المدافعين عن الفتاة المراهقة وحقوق المثليين طمعًا في إثارة الرأي العام وبالتالي الشهرة، لكنهم – كما هو الحال في أفلام الدراما الرومانسية - يجدون في هذه التجربة معنى آخر للحياة عندما يكون في اللقاء مع سكان "انديانا" وقصة "إيما" الشخصية ملاذًا لنفض بعض الهموم التي تراكم غبارها على نفسيات نجوم برودواي. لكن الواقع لا يشهد تحولات جذرية بسبب حادث عابر وهكذا يبقى للنرجسية والاستغلال والرغبة المفرطة في الدلال حيزًا في العلاقة ما بين "دي دي" وزملائها وقضية "إيما".
خلال 12 عامًا ازدادت ستريب قدرة وحضورًا وتألقًا، وخاضت تجارب سينمائية متنوعة، لكنها على عتبة العام الـ 63 لم تعد تملك القدرة ذاتها على الرقص والحركة، فبدت في فيلم "The Prom " كسيدة متصابيّة تجتهد للتحرّك، وبات المشهد الراقص فظًا! فقد عدد من المشاهد الاستعراضية معناه لكونه غير واقعي، وبدت "دي دي" بعيدة كل البعد عن "دونا"، مبتذلة، تفتقد لأي تميّز او عنفوان، تكتسي الألوان المبهرجة التي يخبو بسببها شعاعها الشخصي وكأنها تختبئ وراء أثوابها وزينتها. حتى في الحب، فإن ابداء الاعجاب بـ "دي دي" من مدير المدرسة الذي يصغرها سنًا، لا يُقابل بالحب بل بالغرور وشعور بالتفوق والاستعلاء! ولا تتصدر قدراتها كامرأة أو سيرورة حياتها نحو النجاح - أي حوار، إذ يسند النزر القليل من الخطاب النسوي الى الفتاة "إيما" ابنة السابعة عشرة - منضويًا تحت لواء الإرادة وخطاب حرية الفرد وكرامته وحقه في ممارسة وتأكيد هويته الجنسية.
ربما تكون هذه التفاصيل موفقة اذا ما كان القصد توظيفها لاقناع المشاهد بالدوافع من وراء عدم نجاح مسرحية برودواي، فقد أصبح النجوم كبارًا في السن وفقدوا بعضًا من الرشاقة ومواكبة التغييرات العصرية، وخانتهم نرجسيتهم فتركت تحت أقدامهم أرضية هشّة تزعزعها مقالة نقدية في صحيفة؛ لكن استثمار الشخصيات وتحدياتها في سياق اعادة الفرح الى روح فتاة ابنة 17 عامًا لم يكن الامر موفقًا، يذكّر هذا بالحال الذي أنتقد وما آلت اليه ستريب بين الفيلمين.
***
بين رقصة وأخرى لا تزال ميريل ستريب ذاتها، لكن ملاءمتها لأداء الشخصية لا تتسم بالتوفيق، وفي هذا تذكرنا بآخر أدوار الممثل العريق روبرت دينيرو في فيلم "the Irishman " أو أدوار الممثل المصري عادل إمام في مسلسلاته الرمضانية في السنوات الخمس الأخيرة – وربما أكثر. على الرغم من ان ستريب لم تكن ممتعة في عدد قليل من أدوارها على مدار رحلتها السنمائية حتى اليوم، إلا أنها في فيلم " The Prom " كانت شبه مُقحمة، وربما يكون في انطباعي هذا رغبة شخصية في ألا تطأ قدمي ستريب أرض الافلام الغنائية الاستعراضية بعد " Mamma Mia " نظرًا لصورتها الجميلة التي تشكّلت مع هذا الفيلم.
إن اسناد الادوار للممثلين عملية صعبة، وعلى الرغم من ان الاختيار لا يأتي لمجرد الرغبة في ضم نجم او نجمة ما الى فيلم، بل يترافق ذلك مع الشخصية وميّزاتها ورؤية المخرج لها؛ الا ان المرحلة العمريّة للفنان النجم تتطلب الكثير من الدقّة في انتقاء الأدوار، لألا يتحوّل الى مثار للسخرية.
تجمع "دونا" و "ديدي" كثير من التفاصيل المشتركة، كالغناء والجمهور والاستعراض وشخصية المرأة الطموحة الساعية الى القمة رغم كل ما يتربص بها من عراقيل مجتمعية، وعلاقات فاشلة، وخسارات وأثمان تدفعها لكونها امرأة. لكن في تشخيص كل منهما وجماليته ومكانته في أذهان المشاهدين مساحة واسعة من التناقضات التي تبقي الكفة الراجحة لصالح "دونا".