مجموعة "القفص" القصصية، حيواتنا الصغيرة بقالب روائي ساخر
سماح بصول

ما بين الأعوام 2010 و 2018 نشرت الكاتبة الفلسطينية المولودة في بيروت فدى جريس ثلاث مجموعات قصصية وهي " القفص" ( 2018) و "الخواجا" ( 2014) و "حيواتنا الصغيرة" (2010). كُتب محتوى المجموعات الثلاث بالعربية، فيما صدرت خلال العام الحالي 2022 مجموعة قصصية تحمل اسم "القفص" وهي عبارة عن ترجمة للعبرية لعدد من القصص المنتقاة من المجموعات الثلاث.

كتبت المجموعة بلغة عبرية بسيطة سلسة تخللتها بعض المسميات والمصطلحات والكلمات العربية التي لا تحمل ترجمها من المعنى ما يحمله الإبقاء عليها بالعربية. قد تكون ترجمة القصص للغة العبرية لها من الخصوصية ما يثير نقاشًا سياسيًا حتميًا حول المحتوى إلى جانب النقاش الأدبيّ. فلا يمكن التغاضي عن رسائل المتضمنّة في القصص، وبناء شخصياتها، وتصاعد التوتر في الأحداث التي يجمعها بشكل مباشر أو غير مباشر وجود الاحتلال.

بأسلوب سلس ساخر ومواقف هزلية تصوّب الكاتبة سهامًا نحو أشكال الاحتلال المتعددة.

ويأتي أبطالها من الرجال والنساء مع سمات وخلفيات وتعقيدات تتماشى مع روح الفترة الزمنية وموقع الأحداث تجعلنا نرثي لحالهم ولحالهن ولكننا لا نكف عن المضي جيئةوذهابًا على محور مدجج بتنوّع المشاعر.

 

مشاهد من التاريخ

تفتتح قصة "الخواجا" هذه المجموعة حيث يظهر الفلسطيني الساذج وضيفه الأجنبي الغريب، تعيدنا الكاتبة في هذه الأحداث إلى فترات كان سؤال الضيف عن اسمه وهدف زيارته من المحرمات، إذ يتعامل الناس مع الأجنبي بنفسية غارقة في حب الاستطلاع والذهول من الاختلاف ورغبة عارمة بالقِرى. حكاية تشبه حكايات ألقاها أجدادنا على مسامعنا حين زارهم غريب لأول مرة لا يرتدي شروالًا ولا كوفية.

تحمل هذه القصة رمزية الاحتلال الذي انساب ببطء وهدوء بيننا، جالت عيونه أرجاء البلاد وبيوتها ترصد ما فيها وتسطّر التقارير مجهولة العنوان. وفي مشاهد ناقدة للتهافت على استضافة الغريب، واجتماع كبار العائلات للترحيب به، يتم اغداق الخواجا بالاكل والشرب يفيض الكرم من أيدي البخلاء، وتتبدل الصفات ليخرج الانسان كل طيب فيه إكرامًا للضيف في حين يمنعه عن الاقربين.

ويفعل الضيف كما يفعل الانثروبولوج الذي يسجل كل شيء في دفتره الصغير، يسر هذا مستقبليه في قرية صغيرة تجاور ترشيحا إلى أن يقع المحظور ويصبح الضيف الجاهل بالعادات غريبًا تعبر عينيه او يديه خطًا أحمر تقف النساء على جهته الأخرى، فيصبح ثقيل الظل غير مرغوب به.

ومن تاريخ أبعد تحضر القصص الاوتوبيوجرافية حين يطل علينا جريس وزوجته ماري جديّ الكاتبة. من قريته الصغيرة قضاء عكا يخرج جريس مرغمًا كعامل سخرة إبان حكم الامبراطورية العثمانية، لكنه سرعان ما يتخذ قرارًا بالهرب فيسير بمحاذاة كابل يمتد من الجنبو نحو عكا، فيكون له عونًا ودليلًا.

تبدو مسيرة جريس كمسار تحرّر وانعتاق، يسير ليلًا متكئًا على عصا كما تصور لنا الكتب السماوية الانبياء. بين قرية وأخرى يكرمه الناس بالاكل والشربحتى انقضت 18 يوم وصل في نهايتها الى قريته.

تصمت زوجته ماري تحت ضرب وركلات الجنود الأتراك، ولا تكشف عن مخبأ زوجها الهارب من السخرة، عاشت ماري وانهارت الامبراطوية العثمانية .

في قصة كهذه، يتجسيد الظلم اللاحق بالفلسطينيين عبر أجيال، وتعود بنا الكاتبة الى مسار مظلم بدأ مع حكم الأتراك ويستمر مع حكم اسرائيل، لكنها تجاهر بأن البقاء والصمود حتمي.

 

حكايات من بلاد الشام

يسافر الفلسطيني في عدد من قصص مجموعة "القفص" على الخط بين فلسطين ولبنان، البلاد واحدة والحدود مفتوحة والامتداد واضح. من الجليل نسير جنوبًا، نعرّج على بيوت أبو السعد وخليل والخوري وحاتم، ندخل الزقاقات والبيوت المكتظة في مخيمات اللجوء، نقرأ صورًا عن التناقضات داخل الضفة الغربيّة المحاطة بجدار فاصل. ننتقل من زمن المخاتير إلى الحواجز ذي اجهزة العبور الالكترونية، ومن أيام الانتداب إلى أزمنة الانتخابات المحلية.

على الرغم من أن الظلم، والفقر، والسذاجة، والاحتلال تخيّم على أجواء المجموعة القصصية، إلا أن شخصياتها تكاد تكون كرتونية، تتخذ من التحايل والأفعال غير المتوقعة، والهزل سبيلًا للنجاة. وعلى الرغم من منغصات الاحتلالات الجاثمة فوق أرواح أبطال القصص، إلا أن الحب قادر على التسرب، حب بسيط يسرقه الناس من بين أسطر الضغوطات اليومية واللهاث وراء لقمة العيش.

تكتب القصص القصيرة في هذه المجموعة توثيقًا أدبيًا لطيفًا لمواسم اجتماعية وطقوسًا جماعية في مواعيد الانتخابات المحلية، حيث الاصطفافات العائلية والوعود، والفساد والولائم وشراء الأصوات. قد لا تبدو العلاقة بين حلم الجلوس على عرش السلطة المحلية وامكانات المجتمع الفلسطيني المحدودة واضحة هنا، لكن المحدوديات، والتضييقات تظهر في قصص بطلها الفقر والشّح، وذروتها العنف. فتتجلى افرازات الفساد الناجم عن صغر حجم الكعك وكثرة المُشتهين بالوظائف التي يزيد عمالها عن حجم العمل فيها.

 

قد لا يطلب الفلسطيني البطل في هذه الحكايات كثيرًا من رفاهيات الحياة، أحيانًا كثيرة لا يريد إلا احترامًا لكرامة الإنسان وإنسانيته، وأحيانًا أخرى يريد التمتع بحمام دون أن يفتح أحدهم حنفية في الطرف الآخر من البيت، وقد يطلب بعضًا من النوم الهانئ دون أن تزعجه روائح حرق النفايات.

وهنا نرى النقد الموجه إلينا من خلال ممارسات بعض الشخصيات كالجيران المزعجين، والجارات الحاقدات، والبنات اللامباليات، والفتية التائهون، وسائقو سيارات الأجرة العابثين بحيوات الركاب.

 

عبر الضفة الأخرى

في ممرات العبور من زنازين الأسر نحو ضوء الحريّة، يمر الأسير في نفق طويل مظلم، تحرص الكاتبة في مجموعتها على تخصيص هذه المساحة لقصة تحاول تفكيك وتركيب الحياة ما بعد التحرر بصورة واقعية انسانية غنية بالمشاهد العاطفية والتوغل في الحالات النفسية.

لا يبدو التحرر من الأسر نهاية المطاف، لأن الدخول لعوالم مظلمة وأسر اخر اجتماعيّ وحياتيّ احتمالًا كبيرًا في ظل الظروف الحياتيّة للفلسطينيين على اختلاف الأماكن الجغرافية. فالأسير في هذه الحكايات يبدو كطفل يعيش حالة من التعرّف على الوجوه والافعال والممارسات، طفل لا يزال يعيش في فترة زمنية غائبة جاهلًا ما يخبئ له المستقبل. ربما هذه فعلًا حال الأسر الخارجين الى النور بعد سنوات طوال داخل السجن.

 

الوقوف طويلا عند الحواجز مشهد يتكرر في نشرا الاخبار وشريط حياة الناس اليومية، وهنا يتخذ عبور المرضى والعمال شكل حملة التوعية، فالقارئ للعبرية قد يتجاهل ويتجنب هذا الخبر ويتحاشى التمتعن في صور الصفوف اللانهائية من البشر، لكنه في سرد الحكاية لا يقدر على ذلك فهو مضظر لمتابعة الحكاية حتى نهايتها ليعرف مصير المريض المسجون داخل سيارة الاسعاف، وبين حوار وآخر شديد التوتر بين زوجين تتسرب رسائل الكاتبة حول عبث الجنود بحياة الفلسطينيين واللعب بوتيرة حياتهم وإبطائها حد الموت.

اما الحكايات القادمة من مخيمات اللجوء فهي أكثر سخرية وانتقادًا للجمعيات والمؤسسات العالمية الفاعلة من اجل حقوق الإنسان، وهي ذاتها تنتهك هذه الحقوق من خلال محاضرات ودروس في الحياة لا ترتبط بالواقع. فتسخر الكاتبة من محاولات الغرب تنظيم الأسرة في أحيزة صغيرة تعيش فيها عائلات متعددة تتناوب يوميًا  على استخدام الحمام.

وفي هذه المخيمات ذاتها ترتبط حياة عددي الأسر بالعمل داخل اسرائيل، وهي حالة عبثية تمر أمام أعيننا في القصص فتستوقفنا، ثم تضيف الى المشاهد مشهدًا آخر يعتقل فيه الفتية الصغار ليلا من بين احضانامهاتهم اللواتي لا يملكن غير الصبر والاحتساب!

تسرق النساء في مختلف الحكايات لحظات بطولة مجيدة، فهن قادرات على اظهار الحب ومبادلته مع ازواجهن، وهن قادرات على الحياة والعمل والأمومة. قادرات على الحضور في نهار كل يوم شاق لا يجدن فيه لأنفسهن متسعًا سوى دقائق لشرب فنجان القهوة.

 

ببساطة القصص في مجموعة "القفص" عمق، فكلماتها تأخذنا من مستوى القراءة البحت الى الواقع بتعقيداته، تأخذنا الحوارات الى وصف الحال، وتأخذنا اسماء الشخصيات ومشاكلها الى فك رموز ترتبط بشكل وثيق بقضيتنا وحالنا. قد تبدو القصص للوهلة الاولى مجموعة من المواقف بقالب كوميدي، لكنها السخرية من واقع أليم تتضح مع التقدم في القراءة والانكشاف على مواقف اكثر تعقيدا وشخصيات اكثر تركيبا.

هل سيفهم قارئ العبرية ما تعمدت الكاتبة بثه من خلال حكايات ظريفة؟ هل سيرى النور الملقى على رغبة الفلسطيني الجامحة بالحياة؟ وهل سيعي أن صمود ماري كان أكبر من الامبراطورية العثمانية؟ فهي متجذرة في أرضها وكل العابرين من على ذات الأرض، زائلون.

جميع الحقوق محفوظة © 2024