من أجل القضية.. حضر الفلسطيني وغابت قضيته!
سماح بصول

يبدو اسم الفيلم المغربي "من أجل القضية" (2019) للمخرج حسن بنجلون، مغريًا لإنسان فلسطيني يجتهد لمتابعة كيفية تجسّد صورته في أعين صنّاع السينما في الوطن العربي. فالبُعد القسري للفلسطينيين واقتصار الاختلاط بينهم وبين بقية الشعوب العربية على طقوس دينية او ثقافية يجعل المصادر المُستقاة منها هذه الصورة مثيرة للاهتمام.

يروي الفيلم حكاية كريم (رمزي مقدسي) الفلسطيني الذي يعزف العود ويغني في احد بارات برشلونة، حيث تلتقيه مجموعة موسيقية أجنبية وتعرض عليه الانضمام اليها في جولة عروض تشمل تونس والمغرب والجزائر.

لدى وصول المجموعة الى المغرب، تعلن سيرين (جولي دراي) مغنية الفرقة عن رغبتها التوجه الى فاس للبحث عن بيت ما. تمامًا كاسمه، يكون كريم هو الوحيد المستعد لمرافقتها في هذه الرحلة، ويقطع معها مسافات سيرًا على الاقدام حتى تجد البيت المنشود.

لدى وصولهما تتكشّف أمامنا حالة تمزج الحنين والعاطفة والارتباط بالجذور، والسعي وراء الهوية والأصل. سيرين وهي فرنسية يهودية لعائلة مغربية الأصل تبحث عن بيت عائلتها، فتستقبلها صاحبة البيت المغربية بلطف يؤجج المشاعر وتشاركها الذكريات من خلال الصور والموسيقى، حالة تشبه التحام أفراد عائلة بعد اغتراب. صدقًا؛ لا أعرف كيف يتعامل المغاربة مع احفاد اليهود العائدين للتعرّف على جذورهم – وهي عادة لدى أبناء الجيل الثاني والثالث من يهود البلاد العربية الذين غادروا المكان وبقوا متشبثين بذكرياتهم ويتغنون ببيوت فارقوها، اذا يزورون هذه البلاد بحثًا عن بيوت أجدادهم – لكن المشهد في الفيلم لم يكن فيه من الصدق شيء حينما جلس كريم الفلسطيني مستمعًا ومشاهدًا لسيرين ابنة إستير، دون ان يحرّك ذلك فيه أي شعور. جلس بوجه "البوكر" قبالة سيرين، وما لبث أن واساها باحتضان واحتواء لدى خروجها، أردف المخرج ذلك بحوار مستفز تقول فيه سيرين لكريم "لو لم يهاجر جدي الى فرنسا وجاء الى فلسطين لكنّا الآن جيران"!

لا يمكن أن تمر جملة كهذه على مسمعي دون أن تستوقفني وتثير انفعالي! عن أي جيران تتحدث؟ ما الدافع لخلق جيرة كهذه؟ ولماذا يغادر الجد اليهودي الى فلسطين أصلًا؟

هل حقًا غابت الإجابات عن ذهن المخرج (وهو كاتب السيناريو)؟ ألم يسمع يومًا بالصهيونية وخرافة أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، ألا يعرف حسن بنجلون أن اليهود غادروا المغرب وتونس والجزائر وليبيا واليمن والعراق وسوريا وأوروبا أملًا في الوصول إلى أرض الميعاد؟ ألم يسمع عن وجود شعب جاؤوا "ليجاوروه" بقوة السلاح وارتكاب المجازر؟!

كل هذا لم يستوقف كريم أيضًا! بل واصل حياته محاولًا مع سيرين الالتحاق بباقي أعضاء الفرقة المتواجدين في الجزائر. في منطقة حدودية أشبه باللامكان تبدأ مشاكل كريم مع جواز السفر، وتُزجّ اليهودية إلى جانبه تقاسمه المعاناة.

يشهد بطلا الرواية مجموعة من المواقف والأحداث التي تتسم بالعبثيّة، أحداث لا تبلغ من العمق ما يستوقفنا، بل تمضي كمجموعة سكيتشات كوميدية لم تكن مُحكمة الارتباط ببعضها.

يستعرض المخرج أمامنا عربًا مختلفي الجنسيات يجمعهم بعض البؤس وبعض البدائية، والاحتفاء المُفرط بالغرباء. وبعض القسوة والجبروت المستقاة من الملابس الرسمية.

يواجه كريم العقبات عندما تطالبه ادارات المعبرين الحدوديين تبديل صورته وملاءمة صورتي الجواز وتأشيرة العبور. وخلال محاولاته ارضاء البيروقراطية بتوفير هذه الشروط يتعرّف الى سكان إحدى القرى المغربية النائية، ويعيش معهم تناقض حياتهم بين العادات والتقاليد والدين والتمرد على ثلاثتها. لكن في كل مرّة يشتد فيها الوثاق حول عنق كريم تسعفه الحقيقة: "فلسطيني"، كلمة سحرية جديرة بفتح الأبواب، كلمة تستخرج بعضًا من النفاق المجتمعي، فيصبح الممنوع مسموحًا، والخطأ صواب، ويلقى الحرام فتوى كوميدية تمنح الصفح والمغفرة، وتحوّل كريم إلى صاحب كلمة فارقة عندما تسقط كلمات كبار رجال القرية، وتصبح القضية الفلسطينية "تاجًا" على الرأس، طربوش أحمر يحمل عبارة من أجل القضية يُجنى فيه المال وتضع فيه كل ذات زينة زينتها.

يتنقّل كريم بين معبر وآخر مستجيرًا بالقليل الذي توفره القرية الحدودية، ورفيقته في كل هذا سيرين، هي ذاتها شخصية الأجنبية في الفيلم العربي التقليدي، الفتاة الحرّة، المنطلقة، اللامبالية، المنبهرة بثقافة الشرق خاصةً بما تحمل من رقص وغناء وفرح – ولو كان ذلك على حساب ما يعتري كريم من القلق.

لقد حضر الفلسطيني، وحضرت بعض المواقف التي يواجهها بسبب جنسيته، ومن حسن حظه أن وقع ذلك في دولة عربية. لكن قضيته غابت عندما اجتمع مصيره بمصير المرأة اليهودية، وغابت السياسة عن حواراتهما. ربما يكون المخرج قد اختار الفن ليؤلف بين القلوب، ويجمع الأفراد، ويوحّد اللغة هربًا من المواجهة، او تساهلًا في الطرح- رغم أن الفن لغة وله من القدرة على حمل رسالة سياسية لا تقوى الخطابات الرنانّة على حملها.

قد تعبّر ورطة كريم وسيرين بين حدود دولتين مجازيًا عن حال الشعبين، وحالة التيه التي لا تلقى مخرجًا. لكن، فيما يعرض الفيلم أجنبيًا يعيش حياته مدفوعًا بالشغف وحب الحياة، يعرض فلسطينيًا يعاني من وزر فلسطينيته، ويحملها بين يديه همًّا.

تعثر هذا الفيلم ببعض الأخطاء في الحبكة، وتساهل في الأداء، وتوغل في الخطأ حينما اختار الفلسطيني وقدمه بصورة اعتباطية تميل للتضامن وتفتقد للبحث المعمّق. حتى لو كان الخيال جزءًا من الفيلم الروائيّ، عندما تحضر السياسة تكون لها الغلبة، ويصبح لكل كلمة في الحوار، سيل معاني!

جميع الحقوق محفوظة © 2024