بعيدًا عن العيون الملونة، والقوام الرشيق الجذاب، يطل علينا الفلسطيني بطلًا لمسلسل من انتاج نتفليكس بعنوان "مو". الكوميدي الفلسطيني محمد عامر المشهور بلقب "مو" (اختصارًا لاسم محمد)؛ يقدم لنا في هذا المسلسل ذي الثماني حلقات ملامح من سيرته الذاتية كفلسطيني وصل الولايات المتحدة لاجئًا سياسيًا من الكويت بعد حرب الخليج. بقالب كوميدي جميل نعيش مع عائلة نجار المؤلفة من الأم يسرى، والأبناء سمير ومحمد وناديا، ونتابع يوميات حياة العرب والمسلمين المركبّة في أماكن هجرتهم، والتي تزداد تعقيدًا بكونهم فلسطينيين.
يُطرد "مو" من عمله كونه لا يملك مكانة رسمية تمكنه من العمل، منذ صغره زُرعت فيه فريضة الاعتناء بالعائلة في غياب والده، يحاول "مو" ذلك بطرق عديدة تقوده مرغمًا الى المتاعب التي تزداد حدتها شيئًا فشيئًا، لكنها جميعًا مواقف ساخرة صنعت باحترافية لنفهم أن "مو" هو نموذج لبطل مهزوم، إنسان ملاحق بالفشل، لكن كلما تمعنّا بالحيثيات نجد ان الهزيمة ليست خيارًا. قد يكون بطلنا متسرعًا في بعض تصرفاته، لكن لا يبدو لنا ان نواياه هي ما يقوده نحو تلقي الصفعات واحدة تلو الأخرى.
يشبه هذا البطل كثيرين من أقاربنا وأصدقائنا الذين يعيشون في أمريكا وأوروبا، يشبه حياة الكثير من الشخصيات الناجحة البارزة الذي لاقت مصيرًا مشابهًا قبل أن تتبدل بها الأحوال.
يشبهنا هذا المسلسل كثيرًا لأن شخصياته تعيش في ظل عاداتنا وممارساتنا، ينتقد بعضها ويعزز أخرى. يتخذ من الكوميديا وسيلة للانتقاد، ويطرح مواقف جدية صارمة ويقدم رسائل سياسية مباشرة من خلال حوارات قصيرة أجاد كتاب العمل اختيار توقيتها.
نحن الفلسطينيون نمضي قدمًا
ينجح العمل من تأليف محمد عامر ورامي يوسف، وتمثيل محمد عامر وفرح بسيسو، وشيرين دعيبيس وكلهم فلسطينيون- الى جانب المصري عمر إلبا؛ في أن يجاهر بالمواقف دون أن يكون مبتذلًا أو غارقًا في الكليشيهات أو الاستجداء والبكاء والعويل.
"هل تعتقد بأني ووالدك بكينا عندما خرجنا من الكويت، هل تعتقد ان جدتك جلست تبكي عندما هُجرت وقت النكبة، نحن الفلسطينيون نمضي قدمًا" تقول الأم لابنها في محاولة لحثة على عدم الاستسلام. ولعل هذا المشهد رسالة لنا وللعالم حول مفاهيم المقاومة المتعددة، ان الفلسطيني يعيش ويتابع حياته دون ان تنال منه الظروف المحيطة، لن نقف متفرجين منتظرين الخلاص بل نحن نخلق فرصًا للخلاص، هي رسالة لكل فلسطيني بأن في هذا الشعب من القوة ما يجعله قادرًا على التحدي والنضال.
الزيت الشافي
قد يزرع الأمريكي شجر الزيتون لكن حاميه فلسطيني، عند تُسرق اشجار الزيتون يخاطر "مو" بحياته من أجل إعادتها إلى أرضها. ليس هذا مجرد موقف ضاحك آخر يدفع بالبطل نحو المزيد من المشاكل، بل له معنى آخر يتمثل بالعلاقة الأبدية ما بين الفلسطيني والزيتون. كذلك؛ ليس غريبًا ان تعتبر الام زيت الزيتون علاجا شافيًا لكل الامراض الجسدية والنفسية. وهذه نصيحتها لابنها. تحمل الام معها قارورة زيت زيتون اينما ذهبت، زيت عصرته بيديها، وهي رمزية أخرى توازي مقولة "وطن يعيش فينا لا وطن نعيش فيه". تحمل يسرى نجار وطنها معها الى كل مكان، تخلق لها وطنًا من زيت الزيتون وبه تقاوم الفقر والبطالة والاندماج في المجتمع الغريب.
اللاسامية في ظروف محايدة!
لا يمكن للفلسطيني أينما كان ألا يرتطم بالصهيونية ومُخرجاتها، ففي مشهد ظريف يقوم ابن ناديا شقيقة "مو" وهو ابن لأم فلسطينية وأب أمريكي ويحمل اسم أسامة؛ وهو ليس اسم محايدًا في السياق الأمريكي – العربي؛ بضرب كرة البيسبول فتصيب رأس غريمه. تتكشف عن الاصابة هوية الطفل الغريم اليهودي، والذي ما تلبث عائلته توجيه اتهام باللاسامية لأسامة وعائلته. هذا المشهد هو النسخة الساخرة لكل ما يحدث اليوم في العالم من نشاط مناهض للصهيونية والاحتلال والابرتهايد. كل شيء موصوم عنوة باللاسامية ولو حدث صدفة في ظروف "محايدة".
العودة للأصل
رغم ان 90% من العمل باللغة الانجليزية إلا أن اللغة الأم تتسلل أينما يجب لها أن تكون، في الأحاديث العائلية بين الوطن والمهجر، في الحديث عن الدين، في الشتائم، والغضب والمشاعر. تعود الأم للأصل العربي الاسلامي في تعاطيها مع وشم ابنها، ينصب تركيزها على الحرام متغاضية عن المعنى العاطفي الذي يحمله الوشم، عن الابن الذي يحمل والده على جسده الكبير ولا يفارقه، تتغاضى عن المسؤولية التي تثقل كاهل ابنها بعد وفاة والده، لم يخرج هذا الابن من جلباب الأب فقد ورثه إلى الأبد تمامًا كالوشم!
"مو" شخصية سريعة الغضب، تلجأ للسباب والشتم والعنف كلّما تحلقت حولها الأزمات، قد يكون في هذا بعض من الأفكار المسبقة لكن بناء الشخصية في هذا العمل كان جميلًا إلىى درجة النجاح في خلق توازنات ما بين الغضب والحب. فـ "مو" محب لوالده، لأخيه المصاب بالتوحد، محب لصديقته التي ينوي بناء عائلة معها، ومقابل موجات الغضب العارمة نراه خائفًا، قلقًا، وباكيًا كأي إنسان طبيعي.
تنعكس في هذا العمل صورة عن حياة الأقليات، وقد نشعر بالتماهي معها خاصة وأن هذا العمل لا يكشف النقاب فقط عن مآسي ومصاب الفلسطينيين في دول اللجوء، بل يقدم لنا نماذج من حياة اقليات اخرى. المكسيكيون الذين يفصلهم جدار عن أمريكا، والهندية التي لا تزال ترى في غير الامريكي الابيض اقل شأنًا، والافارقة الذين قذف بهم النظام الى الشارع فشكلوا فيه حياة وعصابات.
فلسطيني في دريمزلاند
في العام 2009 قدّمت لنا المخرجة الفلسطينية شيرين دعيبس فيلم "أمريكا" بطولة نسرين فاعور. بطلته منى فرح موظفة بنك تقرر مغادرة الضفة الغربية هربًا من ممارسات الاحتلال بعد نجحت في الحصول على الجرين كارد. تلجأ هذه المرأة الذي لم ينجح زواجها بالاستمرار الى الولايات المتحدة، أرض الأحلام والامكانيات هربًا من التضييقات السياسية والاجتماعية، هناك في أمريكا تعيش أختها راغدة الحلبي وعائلتها حياة رغيدة منسجمة مع الحياة الأمريكية مع حنين دائم للوطن. في رحلتها مع ابنها الوحيد فادي تختبر منى مواقف لم تكن مهيئة لها، فتختار بعقلية الخوف اللامنتهي من الفقدان والخسارة أن تخبئ أموالها في علبة "كعك بعجوة"، بيئة عربية "حلوة" لأموالها التي تضيع لأن أمن المطار يرمي بالعلبة الى القمامة.
تضطر منى للعمل في مطعم أمريكي للأكل السريع وتلتقي هناك بزميل يهودي فتُشعل هوياتهما نار العداء الذي تركوه خلفهم على ارض فلسطين.
ان ما يقدمه لنا كل واحد من هذين العملين هو دراما واقعية، سواء كان كوميديا او تراجيديا فان الابطال يعانون خلال محاولات الاندماج في المجتمع الجديد. مهما كان شكل وحجم الاندماج فإن الهوية والوطن المحتل لا تفارق الأبطال، في حياة كل منهم تفصيل مرده الى الأصل.
***
ان الاستثمار في القصة الفلسطينية الذي تنتهجه نتفليكس في العام الأخير هو تجاري بحت. لكن مسلسل "مو"؛ الذي بتنا ننتظر جزأه الثاني؛ ينجح في ايصال رسائل للعالم حول الحالة الفلسطينية بقالب جديد. صحيح ان حياة الفلسطيني في وطنه تختلف تمامًا عما هو حاله في المهجر، لكن الفلسطيني الإنسان، والقضية والهوية والإرث والقومية - ذاته. إن استخدام الموسيقى التصويرية لفرق من الداخل الفلسطيني – فريق ولعت مثالًا- والذي يعود الفضل فيه لوجود الرابر اللداوي سهيل نفار ضمن طاقم العمل؛ قد يفتح المزيد من العيون على منتجي هذه الموسيقى وبذلك تكون اللوحة الفلسطينية الجامعة في هذا العمل قد أتت بالفلسطينيين مواليد الكويت، ومواليد سوريا، ومواليد الضفة الغربية والداخل، باختلاف جنسياتهم ولهجاتهم وتجاربتهم وحطت بهم في عمل جميل، متقن، ممتع هادف وصادق.