بعد النكسة 1967 غادر الفلسطيني اللاجئ محمد حسين بصول منزله، تاركًا زوجة حاملًا بطفلهما الأول، لينضم سرًا للمقاومة وتحديدًا للقيادة العامة – أحمد جبريل؛ وفي سنة 1969 شارك في عملية نزع ألغام قرب العوجا (الحدود الأردنية) تمهيدًا لعملية فدائية؛ خرج محمد ولم يعُد أبدًا، لا أسير محرر ولا رفات شهيد. بعد عشرين عامًا، في سنة 1987 غادر الفلسطيني اللاجئ إبراهيم العبد منزله، تاركًا زوجته نجاة وخمسة أولاد وبنات، لينضم سرًا للمجلس الثوري المعروف باسم "جماعة أبو نضال"، خرج إبراهيم ولم يعُد أبدًا، لا هو ولا جسد دون روح يروي سر مقتله.
في العام 2019 أخرجت لينا العبد للنور والجمهور فيلمها الوثائقي الطويل "إبراهيم إلى أجل غير مسمى" وهو رحلة بحث في أرشيف العائلة والأقارب والمعارف وما تيّسر من أعضاء الفصيل، علّها تجد طريقًا لمعلومات حول والدها الغائب، أو تشفي جراحها وأخوتها بمعلومة تؤكد بطولته. خلّدت لينا إبراهيم، لكن محمد لم يجد بعد من يخرج في هذه الرحلة المسلّحة بالكاميرا بحثُا عنه.
رغم اختلاف الحيثيات والتفاصيل الدقيقة، إلا أن المصائر تجتمع عندما يغيب إنسان دون عودة، تاركًا المجهول يحفر أثره في اعماق العديد من نفوس من لا يزالوا بانتظاره.. وهذا مشهد واحد من حياة الفلسطينيين.
***
في العام الذي غادر فيه إبراهيم منزله طوعًا كانت لينا – ابنته- تبلغ من العمر 6 أعوام، لم تعِ الصغيرة معنى ابتعاد هذا الوالد وغيابه الذي لا ينتهي، فمصيره كان مجهولًا، وذكر اسمه بات محفوفًا بالمخاطر مما دفع الجميع للصمت ومحاولة المضي في حياتهم، وخاصة الزوجة التي أصرّت على تكريس حياتها لتربية أولادها وبناتها.
يبلغ هذا الفيلم حدًا كبيرًا من الجرأة، الجرأة التي تجعل الزوجة والاولاد يعاتبون ابراهيم في غيابه، يبوحون بمشاعر السخط والغضب، ويجاهرون بأملهم أن يكون والدهم قد مات بطلًا مما يحمل إعترافًا مبطنًا بعدم قناعتهم التامة بذلك. ويمكن اعتبار هذا الفيلم الوثائقي رحلة مصارحة للذات والآخر، ومسار شديد النقد لكل ما يحيط هذه القصة خصوصًا وتحوّلات القضية الفلسطينية عمومًا، فقد كان هذا المجلس الثوري عبارة عن فصيل معارض لمحاولات منظمة التحرير التوصّل إلى حلول سلمية خلال مواجهتها مع كيان الاحتلال.
كانت نجاة زوجة زي القمر- كما تصف نفسها، لكن إبراهيم آثر العمل السياسيّ عليها وعلى أولادهما الخمسة، والآن، من خلال عدسة ابنتها توجه له اللوم وتعاتبه وتنقد خطوته، وتوجه له تهمة مبطنة بالتسبب في تشتت أفراد عائلتهما. تسترجع نجاة مع ابنتها بعض الصور والذكريات، وتخص بالذكر صورته الأخيرة، عندما غادر وهو يشبه هذا الظاهر في الصورة، ربما تبدّلت ملامحه بعد ذلك.. لا أحد يعلم. فجأة أصبحت هذه الصورة تحمل الكثير من الأهمية والمعنى.
تظهر لينا حاجة كبيرة للمعرفة، للقاء أشخاص عرفوا والدها وعاشوا معه نشاطه السياسي، تتنقل من بلد إلى آخر، وتحاول مع أخت وأخ حياكة نسيج مشترك من الرغبة في المعرفة، والحاجة للاطمئنان بأن إبراهيم مات بطلًا.،"عشت حياتي أعرف انه ابوي بطل وشهيد تخيّلي الاقي العكس" – تبوح لينا لأختها. وفيما تنتقد الأخت الكبرى والدها، وتتظاهر بنسيانه من خلال المضيّ في حياتها والعمل وتكوين عائلة، يتمسك الأخ بالقصص التي أغنى بها خياله على مدار سنوات، فيقول: كنت أحلم بأني سألتقيه في الشارع، سأعرفه، سيكون هو فاقد الذاكرة، متزوج وله أولاد، لن يعرف من أكون ولكني سأعرفه.
من بيت الى آخر ومن شخص إلى آخر تتكشّف معلومات شحيحة حول ابراهيم العبد، فهناك من يقول أنه اتهم بالعمالة واعدم على يد الفصيل، هكذا كتب أحد الصحافيين، وآخرون قالوا أنه كان يبكي يوم إعدامه سائلًا عن السبب منكرًا علاقته بالـ CIA، وآخرون قالوا أن زميله في الفصيل محمود طبخ أعتقل وتم أسره في اسرائيل وهو من أدلى بمعلومات دفعت إلى مقتل العبد!
تصل لينا بيت محمود طبخ، وتبدأ مواجهة لطيفة من جهتها، مواجهة ضعيفة يظهر فيها طبخ أكثر انفعالًا وعصبية فيما تنكمش لينا وهي تحاول تبرير جملتها "أنت تسببت في قتله".. في تلك اللحظات التي يدافع بها طبخ عن نفسه، تتجلى لنا أهوال من المعرفة التي يحاول كتمانها، معرفة تفاصيل أحجية العبد، لكنه يحسم المناورة مع لينا قائلا: "اذا كانت لديك معلومات مؤكدة أني شريك في قتله قومي الى المطبخ وأحضري سكين واذبحيني، الموت عندي مثل شربة الماء. أنا غاضب لأن هناك من قال أن ابراهيم بكى.. ابراهيم لا يبكي"!
تتخذ المصطلحات معنى كبير في حوارات الشخصيات في هذا الفيلم، بين أعدم وقُتل، بين غادر واختفى، بين نزيه و "ملشطة"، بين عتاب نجاة وشكها، بين إنكار ابنته الكبرى واعترافها. بين التسليم بالأمر الواقع ومحاولات التعايش والتأقلم مرغمين.
كانت ابنة ابراهيم الكبرى تبلغ من العمر 15 عامًا، لا تفقه في السياسة شيئًا، بل تكره السياسة والسياسيين -كما تقول، لكن الفطرة كانت جديرة بأن تولّد لديها الحاجة لحماية نفسها: "كان نزيهًا بل غبيًا" – تقول عن والدها، ومن ثم تتسلّح بالادعاء بأنهم "ضحكوا عليه.. ضحكوا علينا كُلنا" – في نقد لاذع موجه للقيادة الفلسطينية على اختلاف فصائلها.
خلال اللقاءات التي تجريها لينا تظهر لنا الكثير من الاشكاليات في تعامل الفلسطينيين مع المعلومات، فكبار السن من أقارب ومعارف يقولون من الكلام النَزَر اليسير فيما تخفي عيونهم ونظراتهم ونبرات أصواتهم الكثير عن عمل ابراهيم وغيره من الفلسطينيين، عن السريّة التي تحيط العمليات والتي تضم أيضًا عمليات تصفية واغتيالات داخلية. حديث مقتضب عن مقبرة جماعية لفصيل "جماعة أبو جهاد"، عن نقل المقاتلين بشكل مستمر من بلد الى آخر، عن محاولات اغتيال من يسأل عن الأشخاص أو العمليات.
لا تكف لينا خلال الفيلم عن توجيه النقد للقيادة الفلسطينية، لا تخفي وصف فصيل ابو جهاد بالعصابة، والتشديد على أن من قتلوا هم من تمتعوا بنظافة اليد والنوايا، لا تخاف من السؤال عن فلسطين التي تقتل من يحارب من أجلها، ولا تمتنع عن ربط حياة الفلسطيني بالذكريات التي يحضر الإنسان بوجودها ويموت بفقدانها، تجسد رحلة لينا شكلًا من أشكال اللجوء، فالمجهول غُربة، وكيف يكون اذا ما كان الحديث عن مصير والد يغيب الملاذ والأمان بغيابه، يشتد إيلام الجرح عندما يثار شك بخيانته لوطنه وقضيته، وتتسع الهوة في النفس عندما يشاع بأنه بكى واستجدى قاتله.
لا تنتهي مسيرة البحث ولن تنتهي..
تختار المخرجة أن تنهي فيلمها بسؤال عن الوطن فتسأل أبطالها "وين الوطن بالنسبة إلك"، فتقول والدتها نجاة "الشام"، وتقول الأخت "سوريا" ويقول الأخ "لبنان".. لكن محمود العبد جونيور، حفيد المفقود من أجل فلسطين ابراهيم العبد فيقول: فلسطين!