رمضان طفولتي.. الإفطار في حضرة ستّي آمنة
سماح بصول

ولدتُ سنوات قليلة بعد اندلاع الحرب الأهلية في لبنان. وعلى مدار ستّ سنوات من الوعيّ المتشكّل أولًا بأوّل حظيتُ بفرصة معايشة ستّي آمنة. بالنظر إلى تعابير وجهها تعرّفت على معاني الفقدان والغياب والاشتياق. كانت ستّي وحيدة في فلسطين، لا قوّة لها إلا 9 أولاد وبنات، وجدّي سليم الذي لم يطُل حضوره في الحياة كثيرًا، فقد تفرّق أخوتها وأختها ما بين الأردن وسوريا ولبنان، كانت لوعتها لفراق الأخوة بعد النكبة حاضرًا بكل قوة، في تجاعيدها وضآلة حجمها، في أدويتها الكثيرة وأغانيها الحزينة.

كانت ستّي آمنة تسكن في الطابق السفليّ، يجمعنا بها الكثير من الحب والدفء والذكريات، ويفصلنا عنها درج عريض تركت حوافه بعض النُدب على جبيني وأنفي، سُجلت إحداها في رمضان العام 1983. قد كان الموسم صيفًا فأرسلتني أمّي لاحضار بعض اللبن الرائب من مطبخ ستّي لتعدّ منه خليط اللبن والخيار والنعنع. حافية القدمين – كعادتي- أحمل صحنًا مقعرًا رُسمت عليه وردة بنفسجية اللون تتوسطها دائرة صفراء، كنت أقفز على الدرج حينما هوّى الصحن من يدي وهويّت معه وتلقيت ضربة قاسية وسط جبيني تعثّر بسببها سير ذلك المساء الرمضاني لأمي وأبي اللذان قضيا وقتًا ليس بالقصير في قسم الطوارئ بانتظار كفّي عن البكاء من ألم الإصابة وتقطيب الجرح.

لكن ذلك الألم لا يقاس بألم ستّى آمنة!

 

لم يتبقّ على انتهاء السنة الدراسيّة آنذاك سوى أسابيع، قضيّت بعضًا منها سعيدة بتلقي الاهتمام من معلمتي سلوى والهدايا بعد الاصابة، وبعضها الآخر أمارس الدّلال الذي تقاسمه كرسيّ في صف البستان وفراش ستّي الذي جلست عليه جوارها أراقب علبها البلاستيكية المحشوة بالأدوية الملونة. لم أعرف يومًا ما كانت تعانيه جسديًا، لكنّي كنت أني مريضة حسرة. روَت لي وأستمعت بنهَم لحكايات الشاطر حسن والغولة، والعنزة العنيزيّة، أستمعت ولم أفهم تراويد الشوق الحزين لأخوة تفتقدهم، لكنها خصّت حسيّن الذي يعيش في مخيمات اللجوء في لبنان بفيضٍ كريمٍ من الدموع وتكرار الذِكِر.

لم أكن اعرف شيئًا عن لبنان!

 

في رمضان الأخير الذي شاركتنا فيه الحياة كنت أبلغ السادسة، طالبة في الصف الأول قصيرة القامة وكثيرة البكاء والشكوى. كانت تجذبني رائحة الخبز الساخن الذي تعدّه أميّ وتحمل أرغفته الكثيرة على رأسها؛ وكذا رائحة لبن "الشمينت" بالعُلب الصغيرة التي سرعات ما تنكسر بعد أن تعرّفت عليها أول مرّة حينما زرت ستّي في المستشفى.

وكنت أكره مرق الدّجاج المعلّب!

 

لم تنجح كل إعلانات "ماجي" التي بثّها التلفزيون الأردنيّ وصور الأرز المرتّب والدّجاج اللامع في اغوائي. كنت أكره مرق الدجاج ولونه الأصفر ورائحته التي تشبه رائحة السيلاري – الذي أمقته هو الآخر. كان يبدو لي كبودرة دواء، كريه الرائحة. لكن والدتي كانت تصرّ على إضافته للوجبات حتّى لو احتوت دجاجًا بلديًا شهدنا عمليّة ذبحه على يد "أسعد" قبل أن نشتريه؛ بحجّة تتلخص في كلمة "أطيّب". كانت تلك مرحلة مفصليّة على مستوى اقتصاد حارتنا، حينما توفّر الدّجاج ولم نعد نحتاج إلى حمله أيام الجمعة صباحًا متنقلين بالحافلات العمومية، لاهثين صعودًا نحو بيتنا في الجبل محملين بالأكياس، بعد أن اشتريناه من سوق الناصرة حيث كانت تمتد عشرات الأقفاص على مقربة من المسجد الأبيض.

لكن هذا ليس أكثر من جملة اعتراضيّة!

 

كان الرمضان الاخير لستّي آمنة في العام 1984 ، بدأ الحر يتسلّل في آخر أيار عندما انطلق شهر الصيام، يوم عدتُ منتصف النهار شاكية باكية من ألم في البطن نتيجة الجوع. لم يكن ألمًا حقيقيًا بل حُجة لمغادرة المدرسّة، فقد كنت في تلك الجيل (وسنوات طوالٍ بعدها) ادّعي الصيام وأشرب الماء خلسة من حنفيّة الحمّام، وأختبئ أحيانًا على الدرج المؤدي إلى فناء خلفي حيث أقيم فرن للخبز مصنوع من الطين الأبيض؛ لآكل بعض الحلويات التي اشتريتها من دكّان "سهيل".

في ذلك النهار، دخلت المطبخ لأجد أمي قد بدأت تستعد باكرًا للافطار، كانت تنوي إعداد المُغربية، مفتول "أوسم" عديم الطعم الذي لا أتناوله منذ تلك الحادثة فيصطف جنبًا الى جنب مع مرق الدجاج.. ربما أكنّ مشاعر سلبيةٍ تجاه "أوسم" بشكل عام.. من يدري!

 

بقميص المدرسة الأزرق، وشعرٍ قصيرٍ وحجمٍ ضئيلٍ وقفت إلى جانب أمي، أبرّر لها عودتي المبكرّة وأنا أتكئ على خزانة الطحين، وأشتكي ألم الجوع، فيما أراقبها وهي تحرّك المرق، مدّت نحوي ملعقة مليئة بالمرق وقالت "ذوقي إذا طيب" – ربما كانت تعلم أني أدّعي الصيام- فقلت "صايمة" ردّت "طيب ابصقيها بعدين" فترددت وتراجعت ثم قلت ودموعي تنهمر "بتقرّف طعمته".

كانت الطاولة المغطاة بقشرة الخشب "الفورمايكا" الخضراء اللامعة وسط المطبخ تحيطها كراسٍ حديديّة نجدّت مقاعدها بالأخضر الغامق.. أزاحت والدتي كرسيًا وجلست عليه فأصبحت على مستوى طولي وقالت: حرام نقول بقرّف؛ بلبنان في الحرب الناس أكلوا البساس، كانت البسّة تفوت تدوّر ع أكل يوكلوها"!

هذه هي الحرب؟!

 

كانت هذه الجملة كافيّة لتجعلني أتّخذ قرارًا أبديًا بعدم تناوّل مغربيّة "أوسم" أو مرق الدّجاج، صارت هذه ترتبط بالحرب والجوع ولبنان. لبنان التي يأتي منها أقاربنا للزيارة في الصيف، وقد غابت تاركة وراءها مجموعة ثمينة من الذكريات والصور  الفوتوغرافيّة. لقد علقت في رأسي الفكرة بأن ذلك المكان بعيد يعاني من الفقر الشديد والجوع، وتمدّدت بمرور العُمر لتصبح أمرًا بأنّ عليّ تقبل أيّ طعامٍ يقدم على المائدة لأن فلسطينيين كُثر غيري لم يحظوا أيامًا طويلة بالطعام.

وأنّ لي أقاربًا يعيشون هناك.. وسط الحرب!

 

خلال سنتين بعد مجزرة صبرا وشاتيلا كانت ستّي آمنة جريحة القلب، فقد تمسكّت بصور شاهدتها عبر نشرات الأخبار، جثث منتشرّة في الشوارع ونساء يلطمن وجوههن، كانت الولولات الهادئة مركبُا من ممارستها اليوميّة. كانا آخر عامين قبل وفاتها.

في آخر رمضان عاشته بيننا كنا – 9 أطفال لعمّي وأبي - نتحلّق فجرًا في غرفتها لتناول السحور، صينية الطعام الألومنيوم الفضيّة رافقت تلك الليالي طويلًا، وفي المساء كنت أقف جوار أمّي وهي تعد الشوربة بمرق الدّجاج الجاهز، تتبدّل تضاريس وجهي سريعًا حين أشمّ رائحته.
وأكاد أبكي! 

 

لسنوات بعد وفاتها كانت ستّي آمنة محاصرة في ذهني، أستعيد بكاءها ولوعتها والتراويد التي كانت تغنيها شوقًا وحسرة. يحين الموعد فأجلس في مكان صغير قرب مائدة الإفطار أتجنّب الشوربة.

غادرت ستّي عالمنا في العشرين من آذار، وأصبحنا من بعدها نتناول الإفطار برفقة عائلة عمّي في مطبخهم الكبير، نستمع إلى "أبو جرير" وهو يردّد بعض الأدعية عبر "صوت اسرائيل" وتستجيب ملاعقنا لنداء الافطار المنبعث من الراديو.

كانت لستّي آمنة قدرة عظيمة على حفظ القصص الشعبيّة وسردها على مسامعنا، تغلبّت على سمير غانم وفطوطّة، ونيللّي وفوازيرها، وياسر العظمة ومراياه. أمامها على حصيرة تتوسط غرفة نوم كانت تضع صينية مملوءة بالزلابية وأصابع زينب المحشوة بالسمسم. كان الجلوس جوارها متعة، واحتضانها دفء، والشكوى إليها فرج.

بعد رحيلها لم تعد الحكايات وجهتي لأنّ عمتّي التي ورثت قدرة السرد صارت تختصر الإثارة. كبرتُ وصرت أجيد لعب الورق، بدأ رمضان يزحف نحو الربيع ثم الشتاء. الجميع يتلكؤون في مغادرة الطاولة بعد الإفطار، وأنا أركض نحو بيتنا هربًا من جيلٍ تبدأ فيه ورديتي في جليّ الصحون، وطمعًا في ألا يشاركني أحد أخوتي حلوى "إيچوزي" التي لا تزال مفضلتي حتى اليوم.
وصرت أتابع فوازير شريهان!

 

جميع الحقوق محفوظة © 2024