في الثلاثين من آذار 2023، أصدرت المحكمة المركزيّة الإسرائيليّة حكمًا بالبراءة على رومان زادوروڤ بعد أن قضى في السجن 13 عامًا بتهمة قتل طالبةٍ في مدرسةٍ كان يعمل بها في العام 2009. على مدار سنوات طوال كان زادوروڤ في السجن متمسكًا ببراءته وتراجُعه عن اعتراف أدلى به خلال التحقيق، لكن الشرطة الإسرائيليّة والنيابة العامّة لم تكفا عن اتهامه.
قصّة زادوروڤ ليست مجرد قصّة حول خللٍ في عمل الشرطة والنيابة الإسرائيليّة، بل قصّة سياسات التعامل مع مشتبه يقبع في مكان ما أسفل سلّم الشرائح المجتمعيّة، فزادوروڤ قادم جديد، من سكان الشمال البعيد، عامل نظافةٍ بسيط لا يجيد العبريّة. وفي أذهان الفلسطينيين في الداخل حكايات شبيهة حول جرائم قتلٍ تم اتهام فلسطينيين بتنفيذها لكونهم في أدنى مراتب ذلك السلم.
قصة رومان واتهامه بالقتل رغم خطورتها إنسانيًا وسياسيًا، إلا أنها لا تحمل بُعدًا قوميًا يثقل كاهل المتهم، فلا تسود على أثرها غمامة الوصم فوق مدينة كتسرين التي يسكنها أو على جبين كل القادمين من أوكرانيا مثله، لكن غمامة الوصم هذه سادت ولا تزال جاثمة فوق صدور أهالي النقب عمومًا، وباتت رهط خصوصًا كحقل ألغام في الذهنيّة الإسرائيليّة كونها مسقط رأس المتهم عنوة بقتل الفتاة حانيت كيكوس – سليّمان العبيد.
على الرغم من تشابه بعض الحيثيات إلا أن فرقًا أساسيا شاسع البون بين قضيتيّ زادوروڤ الذي عمل في موقع جريمة قتل الفتاة تائير رادا، بينما لم تربط سليّمان العبيد بكيكوس أو عائلتها أو مكان سكناها أو حتى مكان العثور على جثتها أيّة صلة!
***
في العام 93 اختفت آثار فتاة تبلغ من العمر 16 عامًا وتدعى حانيت كيكوس. خرجت الفتاة مساءً من بيتها في أوفاكيم (النقب- جنوب فلسطين) متجهةإلىبئر السبع لحضور حفلة عيد ميلاد، انتظرت على محطة الحافلات عند مدخل أوفاكيم، ثم أقلّتها سيّارة مجهولة السائق لتلقى حتفها ويتم العثور على جثتها صدفةً في قناة تصريف بمرور سنتين على اختفائها.
خلال السنتين كان رجلًا فلسطينيًا من سكان رهط في النقب يدعى سليّمان العبيد، عربيّ، فلسطينيّ، مسلم، بدويّ، أفريقيّ البشرة والملامح، عامل بسيط في مكب نفايات، يعاني من تراجع في سلامته العقلية، ولا يتقن العبرية، قد أعتقل على يد الشرطة بشبهة اغتصاب وقتل كيكوس. كانت مواصفات العبيد مثالية لحياكة ملف اتهام.
خلال فترة سجنه الأولى اعترف العبيد باغتصاب وقتل الفتاة ثم قدم اعترافاتٍ شديدة التناقض للمحققين، لكن الشرطة والنيابة تمسكتا بالاعتراف ولم تعيرا أي اهتمام للتناقضات وانعدام الأدلة، فقد اصطاد الطُعم فريستهم المنشودة. بضمن التحقيق تم أخذ العبيد قبيل الثانية فجرًا لإعادة تمثيل الجريمة، وقام العبيد بذلك لكنه تراجع عن كل ما قال ومثّل بعد يومين فقط. لم يسعفه الإنكار وتمت إدانته والحكم عليه بالسجن المؤبد قبل أن تعثر الشرطة على الجثّة.
منذ العام 1993 التفتت المخرجة الإسرائيليّة جولي شاليزإلىهذه القصّة، فتوجهت جنوبًا ورافقت عائلتيّ العبيد وكيكوس على مدار أشهر طويلة، راقبت كل يقال وكل ما ينشر، زارت البيوت واستمعت للعائلات، حضرت جلسات المحاكمة ووثّقت كل شيء. كانت شاليز تشعر بالتعاطف مع عائلة كيكوس، لكنها خشيت عائلة العبيد نتيجة الأفكار المسبّقة وكل ما أشيع عن البدو؛إلىأن زارتهم قبيل إطلاق الحكم على سليّمان ورأت عائلة طبيعة تجلس متحلقّة حول حزنٍ عميق، تتشح بالسواد كأنها فقدت توًا واحدًا من أبنائها. ارتبطت شاليز بالقضيّة أكثر وبممثلي العائلتين منال العبيد ووحيد الصانع من جهة ودولي ورافي كيكوس من جهة أخرى. كان الطرفان مقتنعان بأن العبيد لم يرتكب الجريمة، لكن لكًلٍ حجته، فوالديّ الضحية تمسكا بفكرة مشبعة بالعنصريّة مفادها أن ابنتهما لا يمكن أن تركب سيارة مع شخص بمواصفات العبيد، لكن منال ووحيد أكثر معرفةً بسليّمان وقناعتهما ببراءته ليست محصورة بقوميّته أو لون بشرته. في العام 1995 أخرجت شاليز فيلمها الأول عن هذه القضية "أجيبي إن كنت تسمعين" قبل العثور على الجثة.
بعد إطلاق سراح العبيد نتيجة تقصير مدّة الحكم، عادت شاليزإلىأرشيفها الغنيّ الذي وثّق القضيّة منذ بدايتها، وارتأت أن تضم سليّمان العبيدإلىعمليّة التحقيق الطويلة التي لا تزال تخوضها، لتطلق فيلمها الوثائقي الطويل "لماذا قلت أنا" (The Reason Why) ومن خلاله تراجع تفاصيل قضيّة هذا الفلسطينيّ الذي قبع في السجن لمدة 23 عامًا بريئًا، وتمت إعادة محاكمته ثلاث مرات بعد تراجُعه عن اعترافه باغتصاب وقتل كيكوس.
يُظهر هذا الفيلم أولًا إصرار مخرجة على تقصّي الحقيقة وعدم الاكتفاء بعرض قصّة ظلم لحق بالعبيد، لم يعط الفيلم مساحة منفردة لعائلة كيكوس للتعبير عن ألمها وموقفها ورأيها، بل منح بالتوازي مساحة لعائلة العبيد لمراجعة فيديوهات التحقيقات وتتبّع تفاصيلها والتصريح بحزن ابنة فقدت والدها لمدة 23 عامًا، فتاة كبرت وشبح كيكوس يلاحقها، فتاة حرمت من تهنئة الأب صباح كل عيد، فتاة قويّة صمدت في وجه عارٍ مؤقت وكانت مقتنعة ببراءة والدها، لكن القضاء الإسرائيليّ ومنظمات الشرطة والنيابة لا تستعين بالعواطف.
يتتبع فيلم "لماذا قلت أنا" كيفية حياكة الملفات من قبل المحققين، كيفية اصطياد المتهم كالفريسة، تحوم حوله وتفحص نقاط ضعفه، ثم تقوم بتهديده، وتبتكر أسليبًا في كيفية إذلاله من خلال تعريّته، واستهداف سلامته النفسية التي تودي به في نهاية المطاف إلى منزلق الاعتراف بجريمة لم يرتكبها لتكف الشرطة عن العبث بكرامته.
***
يجلس وحيد الصانع - وهو ابن أخت سليّمان العبيد – أمام شاشة يشاهد فيديو من التحقيقات، يظهر فيه محقق وهو يقرأ على مسامع العبيد نَص اعترافه، يثور وحيد ويؤكد على أن قراءة النص أمام العبيد عشرات المرّات لن تجعله يفهم ما كتب هناك بالعبرية.
كيف تم الحكم على العبيد قبل العثور على الجثة؟ كيف يمكن أن يصدق عقل بأن العبيد قاد السيارة بيده اليسرى ووضع اليمنى على فم كيكوس لإسكاتها؟ كيف صمتت الضحيّة واستمرت بالجلوس إلى جانب الجاني دون إبداء أيّ اعتراض؟ هل يعقل أن تشعر الفتاة بالخطر ولا تحاول القفز من السيارة أو ضرب الجاني أو حتى عضّ يده التي تغلق فمها؟ كيف جلست صامتة ويداها إلى جانبيّ جسمها غير مقيدتان – حسب وصف العبيد! كانت كل هذه الفجوات في منطق الاعتراف ملفتة لكل من سمعها إلا المحققين! تمسّكت بها المخرجة وخرجت لتقصي الحقيقة والعثور على الإجابات.
على الرغم من الأفكار المسبقة العنصرية، يؤكد والدا كيكوس على براءة العبيد، ويتساءل الوالد خلال أحد مشاهد الفيلم كيف يمكن نقل فتاة بسيارة وحملها واغتصابها وقتلها واخفاء جثتها دون ترك اي أثر لها على ملابس أو سيارة أو جسم القاتل؟ لكن الإجابات على تساؤلاته لم ترد في أي تحقيق!
في هذا الفيلم الوثائقي المتكامل، المستفز لشعورنا بالظلم اللاحق بالعبيد – وكذلك عائلة كيكوس التي لا تزال تبحث عن قاتل ابنتها- تبدو المخرجة كمحققة أكثر قوّة وقدرة على التمعّن في التفاصيل وتوجيه الأسئلة الصعبة لتتفوّق على المحققين والقاضي المتقاعد الذي أصدر الحكم على العبيد.
في هذا الفيلم تنجح شاليز في أن تصيغ - بدعم المشاهد وثقته- اتهامًا صريحًا للشرطة والمحققين الذين عملوا على استجواب العبيد، والقاضي تسفي سيچال الذي أصدر الحكم عليه.
قد يكون الأوان للعدل القضائيّ والإنسانيّ ابتعد، يبلغ العبيد السبعين من عمره اليوم، خسر 23 عامًا في السجون، حرم من رؤية أبنائه يكبرون، ومن مشاركة عائلته ومدينته أفراحها وأتراحها، كهذا يجلس العبيد كهلًا مُتعبًا أمام شاشة المخرجة التي تعرض عليه مقاطع من التحقيق معه، فيبدو أكثر انكسارًا وهو يستعيد شريط ذكريات مهينة ومؤلمة.
جرأة شاليز في هذا الفيلم كبيرة، فهي تصوّر المحققين والقاضي كمتهمين يدافعون عن أنفسهم، فالقاضي لم يحكم ببراءة العبيد رغم عدم وجود أدلة يحاول شرح موقفه، فيما يتذرع المحققان ألبيرت أبوكسيس وحاييم ديدي بشتى الذرائع وعلى رأسها توقّف الآلة عن التسجيل عند الاستجواب، ويصمتان حين لا تجدي الكلمات نفعا أمام إصرار المخرجة على أن خللًا متعمدًا وقع في عملية التحقيق وجمع الأدلة وتوثيقها.
لا يمكن الادعاء بأن إنصاف العبيد كان قِبلة شاليز الوحيدة، لكنها في العمل تنجح في التأكيد على أن روايات الشرطة الإسرائيليًة ليست محط ثقة دائمًا، لذا تعتمد محاورة ممثلي الشرطة والقضاء بزاوية وإضاءة وإخراج يجعلها تبدو كاستجواب، بالمقابل تعرض مقاطع من إعادة تمثيل الجريمة بسخرية مبطنة فهي تبدو كفيلم مؤلف من سيناريو سيئ ومخرج أسوأ، فالاسئلة الموجهة إلى العبيد في مسرح الجريمة المُدّعى لا تنم عن أي رغبة بتقصي الحقيقة بل باجترار حبكة صيغت سلفاً تتسم باللامنطق والتافر الحاد بين اجزائها المختلفة.
تتكرر الحكايات الملفقة للفلسطينيين في الداخل وتوّلد قضايا مشابهة عند الحديث عن قتل اسرائيليين، إذ تنبري ثلاثية الشرطة والنيابة والمحكمة على اتهام الفلسطيني وتصدير رواية مقنعة للرأي العام الإسرائيلي، لكن ضرورة وأهمية فيلم كهذا ومواقف مخرجين كشاليز تكمن في تفكيك رواية الشرطة وجهاز القضاء الذين يبنون شخصية القاتل بما يتفق مع الذهنية الاسرائيليّة التي وضعت مسبقًا تفاصيل شخصية "الشرير" ولا تزال تبحث عنه بين ظهرانينا في كل مناسبة!
هل نستغرب كيف توقفت الكاميرات في زقاقات القدس عن العمل عند استشهاد محمد العصيبي؟ أو تضارب التصريحات الشرطيّة بشأن حادثة محمد أبو جابر؟ لا نستغرب! فالتحايل على الحقيقة وتفاعل الرأي العام يبدأ من بث التصريحات، عددها والتضارب فيما بينها، ثم من خلال اتهام المعدات والأجهزة التي قد تتلف أو تتوقف عن العمل، لطالما خدمت هذه الخدع المحققين والشرطة، فهكذا يتم التنكيل بالأسرى خلال التحقيق معهم، كهذا يتم تغييب الواقع، وهكذا تتم حياكة جريمة وكتابة اعتراف لم تسجله الأجهزة.