ثوري يا (نساء) بيروت!
سماح بصول

كتبوا على الجُدران "بِدنا خُبز وعِلِمْ وفرح"، قبل أن يتم اختطاف ثورة اللبنانيين ضد طُغاة دولتهم الصغيرة، وتتحوّل هذه الشعارات إلى ذكرى فترة سبقت مزيدًا من التهالك والتداعي السياسيّ والاقتصاديّ. يبدو أن ستّ الدُنيا بيروت لم تبرح مكانها في قلب الحدث الذي اختارت المخرجة الفلسطينية ميّ المصري توثيقه في فيلمها الوثائقي الطويل "بيروت في عين العاصفة"، حيث تجوب مع الكاميرا في شوارع وبيوت العاصمة اللبنانيّة، وأذهان أربع نساء شابات عشن تجربة الثورة الشعبيّة لأول مرّة، شاركن فيها ووثقنها من خلال عدساتهن وكتاباتهن وأغانيهن، وطبعت على أجسادهن بعض النُدب. خرجت كلُ منهن لتثور ضد سجّانها الخاص، والتحمت بالشارع لتتحوّل إلى جزءٍ من نهر بشريّ يجتمع معظم من فيه على ثورة ضد سجّان مشترك.

يسير هذا الفيلم عميقًا في دواخل بطلاته وممارساتهن وأفكارهن ومواقفهن، إلا أن شبح الحرب الأهلية لا يزال هناك، لم يغادر لبنان ولا نفوس اللبنانيين، وكأن بداية الخَلْق اللبناني بدأت في أكتور 1990، وليس لأنها سنة ميلاد إحدى بطلاتنا - نويل.

طالما كانت بيروت في عاصفة الحروب والاقتتال، وعاصفة الثورة والهبّة، وعاصفة الفساد السياسيّ. لم تهدأ هذه المدينة يوميًا، تسقط وتنهض وتمضي، تتبدّل الناس ولا تتبدّل بيروت التّي كتب لها نزار قباني[1] :
ما زلتُ أحبّك يا بيروت المجنونةْ

يا نهرُ دماءٍ وجواهر

ما زلتُ أحبّك يا بيروت القلب الطيّب

يا بيروت الفوضى

يا بيروت الجوعِ الكافر.. والشّبع الكافر

ما زلتُ أحبّك يا بيروت العدلِ

ويا بيروت الظلمِ

ويا بيروت السبيّ

ويا بيروت القاتل والشاعر

 

وكذا هي بيروت على بُعد عشرات السنوات من موعد نظم القصيدة، لا تزال الدماء تسيل فيها، ولا تزال جواهرها الظاهرة والدفينة لم تفارق مكانها لكن بريقها يبهت، تجتاحها ثورة الجوع ضد الشبع المُفرط، وضد الظُلم وضد سبيّ مواردها واحتجازها في أيدي حفنةٍ صغيرة من ورثة الحرب الأهليّة!

هكذا ثارت بيروت محاولةً القيام من تحت الردم كما فعلت مدنٌ أخرى في الجوار العربي في ربيع تلاه صيف مُقفر، خرج الآلاف إلى الشوارع، صرخوا ضد الساسّة، وضد سرقة خيرات البلاد، وضد الغلاء وإفقار الشعب. حاول الشباب والشابات الثائرين خلق فوضى أمل رافضة لكل شيء تربّوا عليه، ضد الطائفيّة والطبقيّة، والذلّ، وخطّوا على الجدران بالأسود العريض الصّارخ: حيّ على خيّر الشَغَبْ!

 

جَمَل وسطْ بيروت!

اختارت المصري أبطال فيلمها من النساء الشابات اللواتي لا زلن في بدايات العشرينات من العمر. حنين الصحافية المُسلمة المحجبة، ولُجين الطالبة الجامعية العراقية، والأخوات نويل وميشيل.

تروي الأخوات كيف نشأن في عائلة عانت ويلات الحرب الأهليّة، وتربيّن لأم شاعرة ناقدة وأبٍ قرر مع شريكته للحياة الانطلاق من نقطة الصفر بانتهاء الحرب الأهليّة، وتربية الأمل في أولادهما الأربعة بأن البلد لكل الناس، فتعزّزت الجرأة لدى ميشيل ونويل، والسعي من أجل العدالة الإنسانيّة والمدنيّة وضد الأحزاب السياسيّة، وتحوّلن في أول فرصة إلى صوتٍ عالٍ مُبدع من أصوات الثورة.

"لا تلعبوا دور الضحيّة، شوفوا شو فيكن تعملوا" كانت هذه الجملة من الأهل كفيلة لتفجّر لدى الشابتيّن نبع نشاط فيّاض، فيهن ثورة الجيل الجديد المُعبّر عنها بالفن الساخر الناقد، ولم يتوقّف رفضهن للواقع عند تأليف الأغاني وتقديمها، بل طبقن مقولة الأهل و "فعلنها". مارسن فعلهن الثوري على الأرض ليس بالتظاهر فقط، بل ارتقين بالنضال عندما قرّرن النزول إلى وسط بيروت راكباتٍ على الجِمال، وغنيّن بلغة الراݒ "عَ الجَمَل بوسط بيروت"[2] كردِ فعلٍ مُناقضٍ مناهض لكل ما يعرفه وسط المدينة وكل ما يجسده من حالة اجتماعيّة يُظلم فيها مئات آلاف البشر:

 

أنا بدي كزدر ع الجمل ب وسط بيروت

تطلع فيي الدَرَكي وما حب جَمَلي من الأساس

بس مش حاطة السنتيور[3] جاوبني بحماس

جَمَلك رح ياكل زَبِطْ[4] وما تجربي تقنعيني

قللي بشواربه السود وبضحكته اللئيمة

قلتله حضرة الدَرَكي اللي بتقوله عَ الراس

أصلا مين بسترجي يقلك لأ مَ في عَ جنبك رصاص

عطيت الزَبِطْ للجمل شافوا ورقة ما فهم شو هيّ

قام لَعْوَسه عَ مهلُه بَلَعُه بكل شهية

قلتله حضرة الدَرَكي زي ما حضرتك طلبت

جَمَلي نفّذ الأوامر وأكلُه للزَبِطْ!

 

في هذا الفعل، وما سبقه من مشاهد أرشيفيّة حول مشاركة النساء في التظاهرات، ورفع شعارات مثل " شدّوا الهمّة الهمّة قوية.. ثورتنا ثورة نسوية"، لا يتوقّف اختيار المصري لشخصياتها عند حدود البحث عن الحالات المُثيرة، بل ينسج هذا الاختيار علاقة مع ثورات سابقة عرفنا فيها قوّة النساء، ويبدو الأمر كالـ Intertext  - إن جازت تسميته كذلك في الحالة السينمائية كما هو في الأدب – فإن إعداد كليب برسوم متحركة بالأبيض والأسود بطلته طفلة (في الدقيقة 36)، يعيد للأذهان الفيلم الإيراني المُلهم "بيرسوبوليس" المأخوذ عن سيرة ذاتية؛ وبطلته الطفلة مارجان التي تعرّفت خلال سنوات مراهقتها الأولى على معاني الثورة الإسلاميّة الإيرانيّة، تمردّت عليها ورفضتها.

هكذا جعلت المصري ثورة النساء همًا موحِدًا يتعدى الحدود السياسيّة، وجعلت بطلاتها بنات العالم ولسن بنات لبنان وحده.

 

في بيتنا دكتاتور

وصلت لجين المولودة في العراق إلى لبنان طلبًا للعلم. التحقت بالجامعة في بيروت وبقيت فيها ست سنوات حتى وصلتها جائحة كورونا. تجوب لجين مع الكاميرا والسيناريو في رحاب العاصمة اللبنانية، توثق وتعيش حالة مزودجة من الثورة.

ولدت لجين لعائلة فيها 7 بنات، وقررت في مرحلة ما أن تثور على كل أمر خضعت له مرغمة، بدءًا من الحجاب، ثم إلتزام البيت، ثم منع الالتحاق بالجامعة. تروي لجين قصتها بصورة مجازية بعض الشيء، فتصف البيوت بأنها نموذج مصغّر عن دولة الدكتاتور، فهناك الدكتاتور، وأعوانه، وسلطته التشريعية والتنفيذية، ومخابراته – كلها داخل جدران البيت، وهناك الشعب! هكذا تصبح ثورة اللبنانيين ثورة عربيّة جامعة لكل من تواجد في المدينة، هي ثورة من أجل التحرر الذاتي، ثورة لتحرير النفس والعقل من قمع يطاردها. تنجح المصري مرّة أخرى في أن تنسج حكاية عربية، عندما تقول بطلتها لجين أنها عندما تعرضّت لاعتداء القوات الأمنية أصيبت في قدمها ووجدت نفسها محمولة "كتير بنات حملوني وصاروا يركضوا فيني" – مشهد نألفه نحن الفلسطينيون كثيرًا في مواجهة الشباب الثائر ضد المحتل، جريحًا كان أن شهيدًا، محمولًا يعدو جسده نحو الشفاء والخلاص.

 

لا تظهر فلسطين مجازًا فقط في هذا الفيلم، قاصدةً أم لا، تصوّر لنا المخرجة مقطعًا من التظاهرات نسمع في خلفيته صوت فلسطين محمد عسّاف وهو يغني "علّي الكوفيّة" لنفهم منه أن المقاومة خيّار، وأنها مقاومة من أجل الحق والعدل أيًا كان عدوّك.

 

"بكتب عن هجرة الفلسطينيين من لبنان" تقول حنين، وترافقها الكاميرا في مخيمات اللاجئين ترافق شابًا يروي قصة الهجرة عبر البحر، هكذا تشدّ المخرجة خيوط نسيجٍ حاكته سابقًا، وجعلت قضية اللاجئين حاضرة في قلب حكاية الثورة، فلا العدل قابل للتجزئة ولا الحريّة. لا يضع الفيلم أمامنا مكانة الفلسطينيين في لبنان، ولا يدخل المخيمات في محاولةٍ لإقحام التعاطف مع سكانها، لكن المخيمات تحضر عندما تقول حنين "بعدني عم بكتب" إصرارها هذا يأخذ أبعادًا لنا الحريّة في فهمها.

 

لشخصية حنين ميزة تجعلها تقف في مكان خاص في هذه الحكاية السينمائية. تعرف حنين وتعترف أن حجابها كان نبتة غريبة في شارع الثائرين، تصارح الكاميرا بهذه المعلومات وترتقي بصراحتها لتقول عن نفسها وسط تطورات الغضب الشعبي "في النهار بلبس شخصية القوية، وبالليل شي تاني، زي الطفل".

 

إذا، هي ثورة النساء المتنوعات، قد تكون هذه سنيّة وتلك شيعية والأخرى كاثوليكية أو ربما مارونية، لا نعلم! ما نراه هو بيروت المكان والثورة كفكرة تلتحم فيها النساء، ويجتمع عليها الكبار والشباب. أما العاصفة فهي مجاز لحالاتنا الشخصية نفسيًا وجسديًا وفكريًا، ورغبتنا في الانقلاب على السياسيين هو مجاز لرغبتنا الانقلاب على شخوص أخرى من عوالمنا الشخصية الحميمة، قد تكون الثورة الشعبية الجامعة شرارتها الأولى.

 

يعطي هذا الفيلم الشرعيّة الكاملة لصوت النساء، هن وقود هذه الثورة، لا نسمع أصوات الرجال مباشرة، فهم يجيدون اعتلاء المنابر، وإسماع أصواتهم بما يكفي من مساحات ميدانيّة وافتراضيًة.. كان جميلًا هذا الصوت الرباعيّ النسائيّ.



[1] https://nizarq.com/ar/poem70.html

[2] https://www.youtube.com/watch?v=X6MVWwtGvSM

[3] حزام الأمان بالفرنسيّة

[4] مخالفة شرطة المُرور

جميع الحقوق محفوظة © 2024