فيلم المخرجة اللبنانية سارة قصقص "تحت التحت" وهو وثائقي طويل انتاج عام 2018. بعد طول تفكير، أميل للادعاء بأن هذ الفيلم هو توثيق لثلاث قصص حب، قصص الفقراء والمشردين التي يدفئها الحب وبه تحيى رغم كل الألم والعوّز والبرد والظلم. حُب العائلة أو حب الصديق أو حب امرأة. ما بين التشبّت بالحياة، والعناد والانكسار قصص كثيرة لا تُروى.
لم تغب عن ذاكرتي طوال دقائق العرض قصة "سلاحف النينجا"، مخلوقات تسكن في قنوات تصريف المياه تحت الارض، لكن حياتها فوق الأرض حافلة بالبطولات. وكذلك يغادر الجرذ "راتاتوي" مسكنه ليُعد الطعام ويكسب نجمة ميشلن.. وهنا تنجح المخرجة في اصطياد ثلاث شخصيات من قعر المدينة حيث لا تقترب عدسات الكاميرات كثيرًا، بيروت التي تُظلل اسمها نكهة الجمال والرقيّ، وتُخرجهم من الظلمات الفعلية والمجازية إلى نور السينما الساطع، فترافق عدستها المتفحصّة ثلاثة أبطال ليس من السهل "اصطيادهم" رغم كثرة أمثالهم في الوطن العربي، وتُبدع في تهميش تفاصيل الجنسيات والأديان التي تفرّق البشر، وتٌغيّب أسماء عائلاتهم واضعةً نصب أعيننا ما يجمعهم : الحياة تحت التحت.
تصلي اللبنانية آمال لمار شربل طمعًا في شفاء والدتها المُسنّة المصابة بالجلاكوما (الماء الازرق في العينين)، ويصلي الطفل السوريّ النازح عليّ لعودة صديق مفقود، فيما يعبُد اللاجئ الفلسطيني أبو حسام كأس العرق الذي يحصّن روحه من قسوة الرصيف الذي يفترشه ليلًا.
في بيروت، تلك المدينة التي تكتظ بالآسى، ويشكو مواطنوها من إهمال السلطات لهم عبر البوح بها لبرامج إذاعية، فالكهرباء دائمة الانقطاع، والقمامة تتراكم، والخدمات الطبية في تراجع، ومنسوب الهموم والفقر في ازدياد. من هذه الصور الواسعة للمدينة، تتحرّك الكاميرا لتجيب على تساؤلات الناس وشكواهم، وتقتفي أثر المعاناة من خلال "زوم إن" على صور القيادات اللبنانية تملأ الشوارع، صور أبهتت الشمس لونها، ومزقت الريح بعضًا من أجزائها تمامًا كما تمزّق هذه القيادات أرواح الشعب الذي أنهكته الحروب والنزاعات الإثنية والفساد.
ومن سطح الأرض نسقط إلى ما تحتها مجازًا، حيث يعيش المعذبون بقناعة ورضى وبعض الأمل، فآمال وأمها وأولاد أخيها يعيشون في مساحة تعصى تسميتها، فليست قبوًا ولا بيتًا ولا ملجأ، مساحة فوضوية لا يصلها نور الشمس يعيش فيها أربعة أفراد، يجمعهم حبهم لبعضهم، وحبهم للحياة، يلعبون الورق ويغنّون ويشرحون للمُخرجة كيفية التفريق بين الويسكي الأصلي والمزوّر، يتقاسمون مساحتهم الضيقة مع قطتهم وأولادها، ترتقي أرواحهم بالعطاء والتشبّث بالقليل من اللامبالاة والفرح. تضحي آمال من أجل والدتها، تُكرمها وتقوم على رعايتها، وتفعل كل باستطاعتها لإجراء عملية جراحية لها.. تتحلى بالإيمان لأنه الخلاص – تمامًا كما يفعل كل الفقراء.
وعليّ، فتى صغير رمت به الأوضاع في وطنه سوريا الى شاطئ البحر في بيروت، يفترش الارض وعتبات الأبواب ومقاعد الأرصفة. يستحم بماء النهر ويرافق نازحًا آخر يلهو برفقته، لا نعرف من أين يحصل على قوت يومه، وما يتعرّض اليه من أذى. يروي عليّ سطرًا من قصته التي ترافقها قصة أخرى لا نزال نجهل تفاصيلها، قصة صديق لجأ إليه عليّ هاربًا من حضن عائلته بعد اتهامه بالتدخين وهو لا يزال في الثانية عشرة من عمره! من ذا الذي يهرب من حضن والدة بسبب إتهام كهذا؟ أي مأوى يمكن أن يجد أفضل من ذراعيها؟ وأية جريمة هي التدخين مقارنة بجرائم الحرب والقتل؟ وأي عذاب أصعب من اللجوء وخسارة الوطن؟
لكن عليّ، ببراءة طفل، وفطرة الحب يواظب على شعوره بالحزن لفقدان صديق يصحو يوميًا من نومه باحثًا عنه فلا يجده.. "بصحى من النوم، بدوّر عليه ما بلاقيه، بدوّر عليه ما بلاقيه.." – يلخّص معاناته.
أما أبو حسام، سائق سيارة الأجرة غريب الشكل والأطوار، فهو لاجئ فلسطيني يعيش ما بين السيارة والرصيف. تكتسي يديه بالأوساخ ويكتنف روحه ألم مكتوم. طويل اللحية اشعث الشعر ويعتمر قبعة سانتا كلاوس.. وهذا المظهر ليس صدفة.
تكررت زيجات أبو حسام، لكنها فشلت لأنه – كما يدّعي- لم يعرف كيف يعامل امرأة وكيف يكوّن عائلة. فشلت زيجاته الثلاث وترك بنًا وإبنةً لم يقوَ على اعالتهم.
تحت قبعة سانتا كلاوس هناك شخص يفرط في شرب الكحول، سليط اللسان قبيح الألفاظ، إلا أنه بين هذا الكم من العتمة هناك بصيص نور فأبو حسام يتقاسم القليل مما يملك مع طالبة جامعية يهيم في حبها. "يتبرع" أبو حسام ببضع دولارات لحب حياته، مقتنعًا بأن ما يفعله صحيح ومفيد، ولا عجب، فالفلسفة التي يدلي بها على مسامعنا تفصح عن إنسان يعي الكثير عن الحياة، طليق اللسان، قنوعًا راضيًا بقسمته.
يروي أبو حسام قصة حياته علينا، ويتابع سردها على مسمع الركاب، فهو الهارب إلى شوارع بيروت من بيوت مخيم شاتيلا، فقد خاف على نفسه من الجنون الذي يصيب سكان المخيم بسبب صعوبة الحياة وتعقيداتها. هرب أبو حسام لأنه اختار سلامة عقله – كما يقول. بين شتيمة وأخرى يوجه نقده للحكومات العربية التي لا تحترم الإنسان، ويحاكم نفسه متهمًا إياها بالإجرام ضد الإنسانية لكونه أنجب أطفالًا وأهداهم للذل، ثم يشكر الله على حياته التي يعيش كملك- لا يحتاج الى علاجات غسيل الكبد ولا عصا مكفوف ولا أيد أو أرجل اصطناعية.
رغم كل ما نعرفه عن حياتنا والزوايا المظلمة في محيطنا العربي، إلا أن سارة قصقص تهزنا بتفاصصيل عسيرة على الهضم. تخيفنا بعض المشاهد وتتوجس قلوبنا متوقعة الأسوأ. تستفز بطليها البالغين وتترك الصغير يمارس روتين يومه كما يشاء، فعيونه وحدها كفيلة بإيصال الرسالة، وهو عكس الآخرين لا يتحدث للكاميرا مباشرة، ربما لم تقوَ سارة على توثيق لحظات انكساره كما فعلت مع سابقيّه.
تراقب كاميرا سارة قصص جرذًا يخرج في ظلمة الليل من جحره ليسرق بعض فتات الطعام، وكما كهذا الجرذ يعيش هؤلاء حياتهم لهثًا وراء فتات، فتات الحياة وفتات الطعام ومُخلفات الصحة والنظافة. هم اهل الشارع وهو أهل لهم، حياتهم بلا حياة، وأجساد البالغيّن منهم تقتات على الكحول التي – ربما- تنتشي معها أرواحهم، وتصفى أذهانهم، وتطير نفوسهم الى الأعلى فوق سطح الجُحر.