رحلة التعافي تبدأ من أبو زعبل
سماح بصول

(الصورة من الفيلم)

حين بدأت الانكشاف على عالم الأفلام المصرية الغنيّ، كانت كلمة "ليمان" تشي بالخطر رغم جهلي معناها، وكان اسم "أبو زعبل" مقياسًا للقسوة ونبوؤة عن مجهول لا خلاص فيه. وحين نضجت مقدار عشرين فيلمًا أصبح الاسم معلمًا هامًا ومثيرًا في الكثير منها، لم يكن مجرد سجن، كان رمزًا لتعذيب المتواجدين فيه وخارجه. ان مجرد التجوال خياليًا في زنازينه وأقبيته ترهق المتخيل الذي يتفادى استشعار روائح الدم السائل على أرضيته. لاحقًا تعرفت على أسماء سجون أخرى، في فلسطين المحتلة، والبلاد العربية، وبات واضحًا لي معنى انتهاك وإهانة حرمة الإنسان جسدًا وروحًا ونفسًا في "أبو زعبل" وسجون أخرى، واتضحت أكثر معاناة التجربة ما بعد التحرر، لكن السينما كانت ولا تزال منفذًا صغيرًا للاستشفاء.
"أبو زعبل ٨٩" فيلم وثائقي يروي حكاية إبن ينبش أرشيفًا شخصيًا ووطنيًا ليخرج فصلًا من حياته هو، تشاركه بطولته مجموعة من السجناء السياسيين، لكن الراوي لا يبحث عميقًا في تفاصيل الاعتقال والتعذيب والإفراج، بل يغوص في قلب تجربته هو، في معنى ايقاظه ليلًا كطفل يبلغ الخامسة على صوت العساكر وهم يداهمون البيت، وفي ثقل اللحظة التي يخلق الواقع فيها شرخًا بين ثلاثية الأب والأم والطفل.

باسم الأب
اختار المخرج المصري بسام مرتضى المضيّ في رحلة مزدوجة مركبة للتعافي من تجربة اعتقال والده على خلفية سياسية، محاولًا مد خيوط كثيرة ومتشعبة قد تشوش المشاهد، لكنها محاولة تعكس ما يدور في الفضاءات النفسية والذهنية والعاطفية لديه - كما يبدو- فيجمع شهودًا يمدونه بالذكريات ليفكك لحظات حاسمة ويعيد تركيبها من جديد ليصل مرحلة ما من التصالح مع حدث مفصلي في حياة أسرته يحوم في خلفيته بقوة عنصر غياب الأب.
كان محمود مرتضى ورفاقه مجموعة ناشطة سياسيًا، لم يكن العام ١٩٨٩ موعد اعتقاله الأول، لكن حين تزامن نشاط المجموعة مع إضراب عمال الحديد والصلب أصبح من السهل على الحكومة استثمار الحدث واتهامهم بالضلوع فيه لاعتقالهم والزج بهم في سجن "أبو زعبل"، تلك الفترة، رغم قصر مدتها، إلا أن عمق الندوب التي تركتها واضح، فالحديث عن التعذيب داخل السجن يمر في الحوارات وكأنه معلومة، يتحايل عليها السجين الطليق فلا يروي تفاصيلها، يراوغ فضولنا ببراعة فنكاد ننسى السؤال: ما الذي تعرض له؟ ما الذي يخفيه عنا؟ أي كلمات يمكنها أن تعينه في مصاب لم يشفَ منه حتى بعد ٣٥ عامًا؟ ألا تستطيع السنوات بطول أيامها أن تسلخ عن الجلد مُصابه؟ يبدو ان سلخ الألم أصعب بمرات من الإصابة به!

اشتباك العلاقات


يقدم الفيلم مادة أرشيفية جميلة، صور العائلة، وصور الشارع العام والأوتوبيسات المزدحمة كازدحام المشاعر في نفوس المتحدثين، كذلك توثيق عمال مصانع الحديد، واستذكار عناوين الصحف مرورًا بإعادة تمثيل لطفولة غابت. توظف المادة برقّة وعناية فيتحول بعضها إلى لسان الشخصيات، وتملأ الفراغ الذي يصمت فيه أصحاب التجربة.

علاقتنا بالأهل مادة دسمة لكل مجال بحثي، تصبح أكثر دسمًا حين تتحول إلى مادة فنية بصرية، لأن ما ينكشف خلال عملية الاعتراف والمصارحة قد يكون صادمًا، ويزداد التوتر حين يكون الاعتراف مواربًا جزئيًا. وفي هذا الفيلم عملية بحث رقيقة، تجتهد كي لا تخدش الندوب لكنها تحتك بها بالكثير من الهدوء والعاطفة. لا يكتفي المخرج بنفسه باحثًا فيستعين بأولاد وبنات المعتقلين الآخرين، محاولًا - ربما- تشكيل كيان استشفائي جامع. فالمشاطرة تصغّر جرعات الحزن وتزيد هشاشتها مقابل القدرة على المسامحة والمضي قدمًا.

أما في علاقة الأسرى مع بعضهم فهناك فضاء تتزاحم فيه الكلمات والنظرات والآهات، يتقاذفون أنصاف الجمل، ويتقاسمون معاني النظرات، ويتشاركون كل لحظات الصمت. قد يكون الفنان سيّد رجب أكثرهم كلامًا لا لقزمية تجربته بل لعظمة المسرح الذي يحمله ويجوّل حكايته إلى وثيقة تاريخية.

جوع للمزيد


خرجت من الفيلم مع رغبة جامحة لمعرفة المزيد من تفاصيل التجربة التي اتفق اصحابها في التستر على بعضها، وهي ليست قليلة في هذا العمل الشخصي الحميمي.
لم تكتمل حكاية فردوس في ذهني، انها ليست شخصية في قصة بسام او محمود مرتضى، بل كيان يخفي في اعماقه الكثير من الحكايات التي تترك المشاهد مع احساس بالجوع. في جانب ما من مسار النضال غابت فردوس رغم قوة وجودها.
أتوق للتعرف أكثر على شخصية فردوس، المرأة الوحيدة التي حضر وجهها وخفت صوتها، وفي هذا المجاز مقولة عن الزوجة التي انتظرت تحرر زوجها، وأعدت له ولرفاقه سمكًا مقليًا فصارت وجبتها متنفسًا في بحر الحصار، فردوس التي حمت ابنها ليلة المداهمة، وفردوس التي استعدت للحظة عناق طويلة لكنها لم تحظ بها.
يقذف بنا المخرج الى زاوية مظلمة في سجن "أبو زعبل" ويتركنا هناك أسرى. يضيء فوق رؤوسنا بضوء خافت ثم يعيد إطفاءه. لا يتحرر أحد من "٨٩" لا هم، ولا نحن.

جميع الحقوق محفوظة © 2024