MO وهو يهز الجيل القادم
سماح بصول

سماح بصول

في الثلاثين من كانون ثاني 2025 أطلقت منصة نتفليكس الجزء الثاني من مسلسل "MO" بعد نجاح الموسم الأول منه والذي عُرض على المنصة في العام 2022. لكن "MO" هذا العام كان مختلفًا، ليس في محتواه فقط، إنما بتزامن العمل مع حرب الإبادة، وما شهده العامان الأخيران من تصاعد في العدوان على الفلسطينيين، والتفاعل الذي يبديه العالم تجاه القضية. إن هذا التزامن جعل العمل آنيًا جدًا.

 يبدو مسلسل "MO" بموسمه الثاني أكثر نضجًا، وأحداثه أقل ابتذالًا، ورسائله المعلنة والمبطنة أكثر حنكة وذكاءً، لهذا أصبح العمل أكثر واقعية بشكل نهض بارتباطه بالسيرة الذاتية لبطله محمد عامر، وكانت الزيارة لمسقط رأس ذويه في بورين خير خاتمة.

في حلقته الأولى كان العمل لا يزال شديد الشبه بالجزء الأول، فهناك مصادفات خارقة في حياة البطل، كالزبونة التي تشتري الفلافل من عربة " MO " ليتضح أنها زوجة السفير الأمريكي، لكن هذه المصادفة تتحوّل بسرعة إلى فرصة لتقديم أول رسالة، وليقول اللاجئ الفلسطيني للسلطة الأمريكية وممثليها أن الحديث عن العلاقة بين إسرائيل والفلسطينيين ليست صراعًا إما احتلال، وتعنت " MO" هو موقف وليس مجرد تصرّف غير مدروس أو متهور.

هكذا يبدأ العمل بحوارات بين الشخصيات تبدو طبيعية كتلك التي نسمعها في أي مسلسل امريكي آخر، ثم تتسلل إليها بذكاء مقولات تتلاعب بقدرة العمل الفني على الدمج بين الواقع والخيال.

في موقف الهجرة غير الشرعية من المكسيك الى أمريكا لا يكتفي العمل بمد حبل نجاة لبطله، إنما هي فرصة لعكس صورة من الجانب الآخر للحدود للمشاهد الأمريكي ولكل مشاهد أوروبي لحثهم على التفكير بعلاقتهم بالمهاجرين، وإظهار مدى السوء والظلم الذي يمارس بحق بشر يحاولان التشبث بالحياة ويعرضون حياتهم للخطر أملًا في إيجاد الفرصة. وفي المشهد الذي يصر فيه " MO" على مناداة الموظف الأمريكي باسم "جاك" فهو أيضًا تعبير عن كيفية رؤيتنا للأمريكي مما يستفز الحاجة لولادة حوار إنساني حول معاناة البشر العاديين في ظل المنظومات السياسية التي تكرس الفروقات بين مواطنيها.

جيل يمضي وهو يهز الجيل القادم

في الحلقة الثالثة يعود " MO" إلى بيت والدته في أمريكا، ويبكي في أكثر من فرصة. يبكي حبًا ويبكي اشتياقًا ويبكي ألمًا، يبكي نائمًا وواعيًا، يبكي لأنه إنسان وهذا التفصيل يأتي لاحقًا بعد أن تعرفنا عليه مهاجرًا غير شرعيّ ومصارع وسجين وغير ذلك من السلبيات.

من هنا نبدأ بمواكبة ما يحدث في فلسطين من خلال متابعة الأم يسرى للأخبار، تفاعلها مع ما يحدث، حزنها وتمسكها بالحقيقة التي ترد عبر مقاطع الفيديو، وهذا هام للفلسطينيين في وطنهم، ليستشعروا كيف يراهم العالم من وراء الشاشات. أما توق يسرى لزيارة فلسطين وتمرير مشاعرها الثابتة تجاه الوطن لأولادها اللذين لم يولدوا في الوطن، وكان " MO" قد عبّر عنه في الحلقة الثالثة بقوله "ولادتي في الكويت لا تجعلني كويتيًا أنا أنتمي لأصل أهلي" وهذه رسالة إضافية وصفها شاعر المقاومة الراحل سميح القاسم بالقول "جيل يمضي وهو يهز الجيل القادم".

هنا تدخل شخصية الإسرائيلي، المنافس، "ﮀاي". فشخصية "آبا" التي طالما تحدت " MO" من خلال استفزازها له وإحضارها لما يتعلق بإسرائيل كانت تهدف لوضع نقاشات من الحياة اليومية على الطاولة، وابداء الموقف منها وليس المقصود هنا – حسب تقديري- إعطاء الشرعيّة للادعاءات الإسرائيلية بقدر ما هو الرد عليها من مصدر أول مستثمرًا آليات الدراما التلفزيونية، ومثال على ذلك حين يقول "آبا" لـ " MO" مشاكسًا: "سرقت ارضك ثم طعامك والان حركة اصبعك البذيئة باسم صهيون". أما شخصية "ﮀاي" فهي أكثر عمقًا في تحديها للهوية والثقافة الفلسطينية، ولا تقتصر علاقته بـ "ماريا" حبيبة " MO" السابقة، إنما في فكرة قيام الإسرائيلي بسرقة ممتلكات وإرث الفلسطيني حتى الحب! في اللقاءات القليلة التي تجمع بين " MO" و "ﮀاي" تتكثف الرسائل المراد ايصالها الى العالم، كالسخرية من فكرة اسحاق واسماعيل اخوة، ودعوة " MO" لـ "ﮀاي" لمصارعته وهنا نلمس الإشارة المبطنة للصراع. وتحريف ضيفة في مطعم "ﮀاي" لكلمة حمص بلفظتها الأصلية لتصبح "حماس"، ولعل الإشارة الأكبر على العدوان الثقافي هي صورة لثلاث أقواس زرقاء اللون من مبنى قبة الصخرة تتسلل ذات مرة من وراء عاملة الاستقبال في مطعم "ﮀاي". اذًا، باعتبار مأكولات المطعم إسرائيلية هل تصبح قبة الصخرة كذلك؟

 إن اختيار الطبخ كمهنة لـ "ﮀاي" هي فكرة لامعة تختصر الكثير من الأبحاث المكتوبة حول سرقة المأكولات الفلسطينية والشامية ونسبها إلى إسرائيل. يصبح "حميد" خبيثًا جدًا حين يدفع بـ " MO" لتذوق الحمص الإسرائيلي فهو كمن يدفعه لارتكاب الخطيئة!

في موضوع العلاقة وخسارة الحب نرى " MO" في مشهدين متتاليين يشكو همّه لغرباء من أصول أفريقية، وكأن الأبيض الأمريكي ليس شريكًا مناسبًا في هذا النضال، فعنصر الانتماء إلى أقلية يجعل من حالة الحب أمرًا أكثر خصوصية، واختيار وصف تصرف "ماريا" تجاه " MO" بالإرهاب العاطفي هو نقد وسخرية لاذعة للاستسهال في استخدام وصم الإرهاب تجاه كل أصحاب البشرة الملونة!

لكن التهكم حول مفهوم الإرهاب واستخداماته من قبل الغرب لا تقف هنا، فلزيادة منسوب الاستفزاز يولد بطلنا " MO" في الحادي عشر من سبتمبر، تاريخ مثير تحمله معك على طول الولايات وعرضها. وإن لم يكن هذا العيار كافيًا لهزّ المشاهد الأمريكي، يأتي لنا العمل بولد إبن لفلسطينية لاجئة ورجل أمريكي يحمل اسم "أسامة" وتكون مناداته بصوت عالٍ كافية لإثارة الذعر في ملعب الباولينغ. في الاشتباك الحاصل بين كل هذه التفاصيل الصغيرة ذكاء جميل ومثير للإعجاب – عائلة "إرهابيين" تعرض قصتها بكل إنسانية ودفء وفكاهة أمام أعين الملايين في العالم الغربي.

يا أبناء إبراهيم

ينجح العمل على امتداد حلقاته في خلق حوارات بين شخصيات مختلفة لاستعادة حكايات إنسانية حول أصل البشر، أحيانا تكون الحوارات مدفوعة بألم شخصي يتحوّل فجأة إلى ألم مشترك بتفاصيل مختلفة، وربما كان الأبرز في حكاية المشترك هو التركيز على اسم إبراهيم وذكره أكثر من مرة في أكثر من موقف.

فمحادثة يسرى مع "بادي" صاحب المزرعة التي تشغّل فيها معصرة زيتونها عن النبي إبراهيم ومكانته للمسلمين الذين يذكرون اسمه بتكرار في صلواتهم، هو رسالة بأن ما يجمع الناس يمكن ان يكون أكثر مما يفرقهم. ورغم عدم قناعتي بجدوى قصة "أولاد العم" والجد الأكبر إبراهيم، إلا أنني أعود لأتذكر بأني لست حقًا الجمهور المستهدف، ويؤكد على ذلك ما ترويه يسرى لابنتها أن الـمستوطنين هاجموا قرية حوارة الفلسطينية وألحقوا الأذى بسكانها الآمنين في بيوتهم، وأن "IDF " وصل وقتل فتى فلسطينيًا في السابعة عشرة من عمره، واستخدام هذا المسمى أي جيش الدفاع الإسرائيلي ثم تصويره كجيش يهاجم ويقتل قاصرين استخدام ذكي لتوضيح المخفي وراء المسميات.

شروشك قوية

في الحلقة الخامسة نرى " MO" يروي شتلة ميرمية مما يعيدنا إلى خيرات أرض فلسطين وارتباط الإنسان بكل تفصيل من وطنه. بالتزامن مع حضور الشتلة يعلو صوت الخصوصية الثقافية فيدور النقاش حول العيش في منزل العائلة وكيف يبدو الأمر غريبًا، وتكون هذه فرصة لجمع كل ما قيل حول العائلة والترابط الأسري والدعم الذي يقدمه كل فرد للآخر. يكون هذا حاضرًا أيضًا في قلق ناديا على شقيقها سمير وإصرارها على ضرورة تشخيصه وعلاجه رغم أنه أصبح في الأربعين من العمر.

كما أن استمرار فكرة زرع الزيتون وإنتاج الزيت المستمرة من الموسم الأول هي أيضا إشارة بالغة الوضوح حول التمسك بالأرض، ولا تخفي يسرى ذلك فهي تصرح خلال لقائها مع مستثمر جديد "انه ليس مجرد زيت انه يسري في دمنا"، وهذا المفهوم يجد مكانه عميقًا لدى محامية العائلة التي تجده علاجًا لـ " MO" حين يصاب بجروح على غرار ما تقوله الأم الفلسطينية بلا توقف.

هوس المجتمع الأمريكي

في تفاصيل صناعة العمل سمات أمريكية كثيرة، ولعل أبرزها هو العادات التي تدخل بيوت المهاجرين واللاجئين وتصبح مكونًا من مكونات هويتهم المركبة الجديدة. لكن مسلسل " MO" لا يقدم هذه العادات ككل مسلسل أمريكي آخر، انما يستخدمها لنقد هذه العادات ولنقد القناعات مثل مهرجانات الطعام، ومعارض السلاح، وايهام أفراد المجتمع بأنهم مستهدفون من قبل مجهول وعليهم ان يكونوا بكامل الجهوزية للحفاظ على سلامتهم، وهنا يستعرض لنا حميد اللاجئ مجموع الأسلحة المتوفرة لديه، ويقول "أصرف نصف ميزانيتي على سلامتي".

لكن لحميد دور آخر، يتمثل في آرائه التي تبدو للوهلة الأولى مضحكة لكن يتضح لاحقًا أنها تفي وراءها نتائج أكثر لفتا للنظر، فوالد زوجته الأمريكي الذي اكتشف قناة "الجزيرة" بفضل حميد وبدأ بمشاهدتها استخلص مما يراه أن بلاده أنفقت ملايين على حرب مخترعة ضد الإرهاب. وتأتي امرأة من أصل أفريقي في فرصة أخرى لتشدد على هذه المعلومة بالقول "لماذا لم يصرفوا هذا المال على الرعاية الصحية" وهذه فكرة وردت كثيرًا خلال مظاهرات طلاب الجامعات التي تزامنت مع المعركة الانتخابية الرئاسية.

أجراس العودة

يظهر مفتاح البيت، رمز العودة، أكثر من مرة خلال العمل. يظهر في حلم " MO" وفي زيارته لفلسطين. وتظهر النكبة معه في أكثر في شكل. تكرر حكاية الاحتلال والسرقة كجزء من الحكاية الأوسع وهي النكبة، ففي أول صدام بين " MO" و "ﮀاي" يطالب "ﮀاي" باستعادة قداحة أعطاها لـ " MO" فيرد الأخير "سأعيد اليك القداحة عندما تعيدون لنا ارضنا" وعندما يضحك "ﮀاي" ساخرًا من الرد يتابع " MO": "إنها نكتة نضحك عليها منذ ٨٠ سنة" في إشارة لعمر النكبة وعدد سنوات تشريد الشعب الفلسطيني وتهجيره لمن لا يعرف من المشاهدين. يضاف اليها المجاز الذي تحمله صفقة بيع مزرعة "بادي" وفيها شجر زيتون يسرى وأولادها، وكيف باعت الدول الأوروبية أرض فلسطين على الرغم من وجود شعب فيها.

تقرع أجراس العودة بشدة في الحلقتين الأخيرتين، وتظهر مشاهد تعيد للأمريكي حكايات يعرفها عن الشعوب الأصلانية كظهور " MO" في حقل قمح تتوسطه خيمة للهنود الحمر، وحين يدخلها " MO" يجد مفتاح بيت جده.، لأن كل شيء له أصل وكل حق يجب أن يعود لأصحابه، امريكا للهنود الحمر وفلسطين للفلسطينيين. كان هذا حلمًا، لكن حين يصحو " MO" من نومه يجد نفسه مجبرًا على المشي، ونراه في مشهد مشي متواصل يحاكي "فورست جامب" الذي ألهب الجماهير وخلق ثورة دون أن يعي ذلك، لكنه كان ملهمًا للتائهين الذين يبحثون عن إجابات.

من "فورست جامب" ننتقل بتشابه ما الى سمير الذي يعد ملفًا يحتوي تاريخ عائلته، هكذا يمرر الإرث ويعاش ولا يقوى أحد على محوه، “لن يمحونا نحن في الشتات سنتابع وجودنا كشعب" تقول ناديا ليسرى وهكذا تروى واحدة من زوايا النكبة بسلاسة، يأتي بعدها زوج ناديا الأمريكي "بوب" ليروي حكايا شعب "الكرانكا" وإبادته الجماعية، وكهذا تنسج الحوارات المتتالية بعضًا ما نشرات الاخبار اليومية.

تعتبر زيارة فلسطين خير نهاية لهذا الموسم، فيها تنتقل الحكاية من اللاجئين ومعاناتهم، الى السكان ومعاناتهم تحت الاحتلال، التصاريح والتضييقات، التفتيش والإهانة، جدار الفصل والمقاومة السلمية. كل هذه تصب في إرادة هذا العمل نقل صورة فلسطينية بلغة تلفزيونية أمريكية، لا بد أن تترك أثرها في نفوس المشاهدين. شكرًا " MO".

مقال عن الجزء الأول من المسلسل

جميع الحقوق محفوظة © 2024